يحدثني صاحبي، اضطررت (مع إلحاح أمي) أن أخرج برفقة أخي لرحلة قريبة من المدينة، كي يطمئن قلبها.
كان أقرب أصحابه يصغرني بثماني سنين، بما فيهم أخي الذي يصغرني بتسع سنين.
جلسنا أول الرحلة، وكل يقوم بشأن، حتى رتبنا الجلسة، ففتح موضوع مما يشغل عصرهم.. فكان تعاطيهم له قد مرّ علي منذ بضع سنين، تحملت أول الأمر، ونزلت لعصرهم، عساي أستلقط خيطاً، وفجأة زاد الحوار، كل ينتصر لما يقول، فيما أنا عكفت على نفسي ولم أخض في جدالهم، لكن كأن هذا الشريط مرّ علي بيوم، وأكاد أجزم أنه مرّ برمّته.. فلا أكاد أستلقط في جدالهم جديداً علي (على الأقل)!، ما اضطرّني الأمر إلى اعتزاله والعودة أو التمثيل لهم أنني متشاغل بشؤون الرحلة، لكن ذهني نقلني إلى يوم كنت وصحبي بإحدى السهرات، وفُتح ذات الموضوع، وكم ضحكت على نفسي أننا كيف استغرقنا يومها بجدال محتدم، كلّ منتصر لوجهة نظره.. ثم عدت الهوينا كالمعذّر بأنه كتب الله علينا أن يعود كل جيل ذات الأسطوانة، والمضيّ بذات الخُطى، والدليل أنني لو حاولت الدخول بما ستجادلون حوله لما أرهفوا لي أسماعهم، فكل عزيز عليه التنازل، أو تقديم قربان اعتذار، ولو حتى على تعجّله باتخاذ موقف خلاف الصواب، ولا غرو فهذا العمر، بدأ البلوغ حالة من النشفان، تصيبه عن تقديم رأيه، أو (ما يراه) حول موضوع ما.. ما يجعل من تراجعه نوعاً من الهزيمة التي لا يرتضيها لنفسه.
لا أكذبكم تحملت على مضض وأن اتخذت من تمهيد شؤون الرحلة لي نجعةً.. لأتساءل: يا ترى هل هذا وجه من النفرة فـ(الفجوة) التي تحدث بين الأجيال أم..؟! لكني تذكّرت في خضمّ هذا بيتاً غزيراً لأبي العتاهية:
إذا مضى القرن الذي أنت فيه
وخُلفت في قرن فأنت غريبُ
وجاء من قول لسقراط، ولفظه: «لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»، بالمناسبة اشتهرت المقولة لعلي -رضي الله- وليس صحيحاً، ثم هاكم هذا التعليق للداعية محمد المنجد: (..هذا الكلام بهذا الإطلاق: غير صحيح؛ فإن من الآداب الشرعية والأخلاق الفاضلة: ما لا علاقة له بزمان أو مكان، فالصدق، والأمانة، وترك المعصية، ولزوم الطاعة.. إلخ، فما يتعلق بتلكم.. وبالذات من يقول بنسبية الأخلاق، ونسبية الخير والشر، وهو قول باطل مردود، كيف وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ».
فالناس على خيرٍ ماداموا يتأدبون بآداب السلف، ويستنون بسنتهم ويأخذون بهديهم، كذا كان السلف يأخذ صغيرهم عن كبيرهم، ومتعلمهم عن عالمهم؛ كما قال بعض أهل العلم:
«كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُشَبَّهُ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ، وَكَانَ عَلْقَمَةُ يُشْبِهُهُ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يُشْبِهُ عَلْقَمَةَ، وَكَانَ مَنْصُورٌ يُشْبِهُ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ سُفْيَانُ يُشْبِهُ مَنْصُورًا، وَكَانَ وَكِيعٌ يُشْبِهُ سُفْيَانَ، وَكَانَ أَحْمَدُ يُشْبِهُ وَكِيعًا، وَكَانَ أَبُو دَاوُدَ يُشْبِهُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ». انتهى من «البداية والنهاية» (14/ 618).
لكن يستفاد من مقولة «سقراط» في مراعاة أمور العادات والأخلاق، والمروءات، التي لا تتعلق بنص شرعي، وإنما مبناها على عادات الناس، وأعرافهم؛ وهذا أمر يختلف باختلاف الزمان والمكان، هنا ينبغي أن يراعي المربي فيه تغيّر الأعراف، وتغير العادات، فلا يحمل أولاده على عادة أو عرف اختلف زمانه.
ويبقى الناس.. على خيرٍ ماداموا يتأدبون بآداب السلف، ويستنون بسنتهم ويأخذون بهديهم، وكان السلف يأخذ صغيرهم عن كبيرهم، ومتعلمهم عن عالمهم؛ كما قال بعض أهل العلم:
«كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُشَبَّهُ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ، وَكَانَ عَلْقَمَةُ يُشْبِهُهُ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يُشْبِهُ عَلْقَمَةَ، وَكَانَ مَنْصُورٌ يُشْبِهُ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ سُفْيَانُ يُشْبِهُ مَنْصُورًا، وَكَانَ وَكِيعٌ يُشْبِهُ سُفْيَانَ ، وَكَانَ أَحْمَدُ يُشْبِهُ وَكِيعًا، وَكَانَ أَبُو دَاوُدَ يُشْبِهُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ». انتهى
من اللطيف حين سرّ لي محدثي أنه.. بيوم تسنّى له الجلوس قرب ثلّة متقاعدين، فيقول إن بعضاً مما يخوضون به، يجعلك تزهد بالحياة وأنت ما زلت على إقبال منها!
فياسبحانك ربي، كأن مطلب منك لترحم ذاتك، أي حنانيك عليها حين لا تجالس من يصغرك ولا من يكبرك.. خصوصاً جلسات أمور الدنيا وطوارق ما يغاث به منها كل جيل!!