إن المتأمل فيما دوّنه عبدالقاهر الجرجاني من تراث بلاغي يرى أنه لم يرتض -في تحليلاته ومعالجاته للنصوص- القراءات المألوفة التي تعتمد على الذوق العام، وتقنع بالتلقّي الآلي؛ لقلة جدواها، لذلك -ومن خلال المنطق العقلي الذي لا يتخذ من الحس والوجدان إلا مدخلاً لعالم النص، حيث تتساند الجماليات- وصف عبدالقاهر النظم بقوله: «هو توخي معاني النحو وأحكامه وفروقه ووجوهه والعمل بقوانينه وأصوله»، فأكد بذلك أن الجمال صنعة عقلية، تقوم على الذكاء بوصفه محوراً أساساً ترتكز عليه الوحدة والتنوع والترتيب والتناظر والتناسب والتوافق.
ولأنَّ غرض الجرجاني في النهاية هو الوقوف على العلاقات بين الأشياء نراه يقول: «واعلم أنَّ غرضي في هذا الكلام الذي ابتدأته، والأساس الذي وضعته، أن أتوصّل إلى بيان أمر المعاني كيف تختلف وتتفق، ومن أين تجتمع وتفترق، وأفصل أجناسها وأنواعها، وأتتبّع خاصّها ومُشَاعَها، وأبين أحوالها في كرم مَنْصبها من العقل، وتمكُّنَها في نِصَابه، وقُرْب رَحِمِها منه، أو بُعدها حين تُنسب عنه، وكونها كالحليف الجاري مجرى النسب، أو الزنيم الملصَق بالقوم لا يقبلونه، ولا يمتعضون له ولا يَذُبُّون دونه».
والناظر في كلام عبدالقاهر هذا وغيره يجد أن مفهوم الجمال عنده لا يختلف عن مفهوم (بوسويه) الذي ذهب إلى أنَّ الجمال لا ينحصر إلا في النظام، أي في الترتيب والنسب، وهكذا فهو ينتمي إلى العقل، أي: إلى القدرة على الفهم والحكم، أو على الإبداع والتذوق، فالعقل هو الذي يصطنع الفكرة وينظمها وينسقها، وبعد أن تأخذ الفكرة مكانها من العقل مرتبة منسقة تهبط على القلم كتابة، وعلى اللسان شعرا وخطابة.
لذلك يذهب عبدالقاهر إلى أنَّ الجمال هو ما «يُستعان عليه بالنظر ويوصل إليه بإعمال الفكر»؛ لأنَّ اهتمامات الفن تكاد تكون هي عينها اهتمامات الذكاء، سواء على مستوى الإبداع أو على مستوى التذوق، بل إنَّ المتلقي عليه أن يتدبَّر باطن العمل ليربأ بنفسه عن التقليد وسوء التفسير، ولتتكشَّف له جماليات النص، لذلك فإن من يحصر نفسه في الصوتيات والحسيّات وأوضاع اللغة لا يمكنه أن يتعرّف إلى الخصائص والسمات التي تميّز النص عن غيره؛ لأنها صفات ثابتة لا تغيير فيها، والمتلقّي لا يتميّز عن غيره إلا إذا كشف أمراً كان خافياً عن غيره، وتذوق مختلف مستويات النظم، فالنظم مستويات متعددة كطبقات المجتمع، منه الخاصي ومنه العامي، بل إن هناك أنواعاً من النظم لا يوقف على معناها إلا من طريق المعقول، أو بمعنى آخر من معنى لفظها (معنى المعنى)، «والتشبيه مثلاً قياس، والقياس يجري فيما تعيه القلوب وتدركه العقول وتستفتى فيه الأفهام والأذهان، لا الأسماع والآذان»، والمعقول يقصد به إدراك العلاقات التي بين عناصر السطح؛ لأن تلك العلاقات هي المحتوى، وعلى ذلك فإنَّ النظم يرتبط بالحركة اللغوية داخل السياق، إذ ليس الغرض من النظم أن تتوالى الألفاظ، بل أن تتناسق الدلالات وتتلاقى المعاني على الوجه الذي يقتضيه العقل، مما يجعل تأمل النظم التفاتاً إلى الوظيفة الجمالية للبناء اللغوي وانحرافه عن مساره العادي.
وهكذا فيمكن القول إن الجميل يتكوّن من عناصر مجتمعة يجب إدراك العلاقة فيما بينها حتى يُدرك الجمال فيه، أو يتحقق في نفس المتلقي، لهذا كان (هربرت ريد) يحمل على استخدام الألفاظ العامة في وصف الجميل من حيث هي تجمع إلى الذاتية خطأ التجريد، ويدعو إلى البحث عن كل عنصر من العناصر المكونة للجميل.
كما كان عبدالقاهر يؤكد على ضرورة تفصيل القول في الخصائص المميزة للكلام الجميل، وذلك لاطراد القاعدة الجمالية في الكلام الجميل، بل في الفنون عامة، فقد ذهب إلى أنه «لا يكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياساً ما، وأن تصفها وصفاً مجملا، وتقول فيها قولاً مرسلا، بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصّل القول وتحصّل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئاً شيئا، وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذف الذي يعلم علم كل خيط من الإبريسم الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكل جرّة من الآجر الذي في البناء البديع، وإذا نظرت إلى الفصاحة هذا النظر، وطلبتها هذا الطلب، احتجت إلى صبر على التأمل، ومواظبة على التدبر».
** **
دلال بنت علي القحطاني - طالبة ماجستير بقسم البلاغة والنقد - كلية اللغة العربية بجامعة الإمام