تركي بن رشود الشثري
لا يختلف اثنان على ما للقراءة من أثر على الفكر والعقل، وما لها من أثر على النفس من حيث التوسع وامتلاك الإجابات المقنعة، بحكم البحث والاطلاع، والتدقيق في المصادر، ولكن بعض القراء وهم فئة خاصة، لهم نظرة أخرى، وقول آخر، وتصور مختلف، فهم يقرأون من أجل الاتصال بأرواحهم، هم يقرأون من أجل إنقاذ أرواحهم، هم يقرأون لأن القراءة تأخذهم لأماكن رحبة يلفها ضباب لذيذ، القراءة ممارسة روحية لدى البعض، يسافر القارئ من خلال الكتاب إلى عوالمه الخاصة، ويعيد قراءة الكتاب من حيثية روحية خالصة، يشترك فيها النظر والشم حيث تحضر رائحة الورق وتشكل مزيجاً من الكرنفال الكلاسيكي مع رائحة الخشب، والقهوة، وزخات المطر على النافذة، القراءة ممارسة روحية إذا كان القارئ مستعداً لذلك، لا تنفتح الآفاق الروحية لكل القراء كما أسلفنا، ولكن بالإمكان معالجة هذا الأمر حتى يصبح سجية بمرور الوقت، الكتاب ليس وعاء للمعرفة، وطبقاً بارداً من المعلومات، بل سراجاً وهاجاً ينير لروحك الطريق نحو المزيد من الوعي والحضور والرقي الروحي.
وهل من الممكن أن يكون للكتاب روح، تأمَّل في الكتاب، وقلبه بين يديك، وأقرأ الجمل التي تروقك بحساسية عالية محاولاً الاقتراب من فكر الكاتب وتاريخه وبيئته، وبطبيعة الحال ليست كل الكتب كذلك، فهناك كتب ميتة من حين ولدت، وهناك كتب مريضة، بل وتسعل بالغبار، وهناك كتب نيِّرة، حاضرة، كثيفة، تكاد تنطق وهي على الرف ومن بين سائر الكتب تستشعر كقارئ صلتك الخاصة بهذا الكتاب، وبهذا الكاتب، بل وصلتك بزمنه وبيئته وتكوينه الفكري وروحه الحاضرة والتي تطل عليك بين صفحة وأخرى، تأمَّل معي هذا المشهد المتكرر لدى بعض القراء، يدخل القارئ الجيد لمكتبته، ثم يمر على الكتب يمنة ويسرة، ثم يسحب أحد الكتب برفق ويتحسس غلافه بحنو، ثم يوقد مصباحه، ويسحب كرسيه، ويفتح نافذته، ويحضر كوب قهوته، وينغمس في كتابه حتى الهزيع الأخير من الليل من دون أن يشعر بمرور الوقت، ثم ينهض إلى شرفته فيقطعها ذهاباً وإياباً وهو يستشعر اختمار ما قرأ في ذهنه، فتتوالد الأفكار، بل قد يكتب قصيدة، أو يرسم لوحة، أو ينام فيحلم أنه زار مدينة من مدن التاريخ العجيبة، فيستيقظ وقد انتظمت لديه باكورة رواية عظيمة، إن تلاقى الأرواح من خلال الكتب، وتلاقح الأفكار من خلال الكتب ليس أمراً غريباً، ولكنه نادر الوجود، ولا يكون إلا لأفراد من العالم في حقب متفرِّقة.
إن العلاقة الروحية بالكتب هي التي تنتج النبلاء، والأدباء، والمثقفين الأصليين، إن الكتب القليلة العظيمة هي التي صنعت التاريخ، وهي التي ألهمت الأرواح الشفافة لتصدر آداباً وأعمالاً ما زالت تسير بها البشرية، لا يوجد فيلسوف، ولا مفكر، ولا عالم يعبِّر عن مكنونات الروح الإنسانية إلا وهو ممتزج روحياً بالكتب، إنه اللقاء الأثير بين روح القارئ وروح الكاتب وروح الكتاب، إنه الثالوث المباح، والتداخل المفيد، واللقاء الأثيري الصالح لبناء الحضارات، وبث روح الرقي في المدائن، فمن نحن بلا كتب، ومن نحن بلا أرواح، ومن نحن بلا مفكرين عظام، صاغوا نظام الإنسانية، وأملوا عليها طرائق التقدم، وزودوها بما تحتاج إليه في سبيل اتحاد المعنى بالمادة، والرحمة بالقوة، والمال بالعلم، والثروة بالتنوع، فالثراء المادي لا يدوم، ولا يعني شيء إن لم يقترن به الثراء الروحي والذي يسمو بالإنسان للآفاق الخالدة.