صلاح عبدالستار محمد الشهاوي
خلال حياته القصيرة (303- 354هـ /915-965م) نال المتنبي (أحمد بن حسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي) شهرة واسعة ظل محافظاً عليها بعد وفاته، ليحضر دائماً وأبداً في شكل لمحات نصية أو إشارات شخصية في نصوص لأجيال جديدة من الشعراء، كأنه همزة وصل بين الماضي والحاضر، الماضي بكل موروثة الثمين والحاضر بكل تطلعاته نحو تجاوز هذا الماضي.
نعم رحل أبو الطيب ولكنه ترك أجمل إرث للعرب، فلم يبقَ أديب، ولا شاعر، ولا كاتب، إلاَّ سطر حروفاً فيه، وسكب المحابر في الحديث عنه، لا لبيان الإعجاب، ولا ولوغاً في حسده، بل محاولة للوصول إلى فضل اقتران اسمه باسم أشعر وأحكم الشعراء العرب. كلهم فعلوا ذلك، إنْ بوعي، أو من دونه (قيل للمتنبي: فلان يهجوك. فقال: هذا صعلوك يريد أن أردَّ عليه فيدخل التاريخ من بابي) لذا تربع المتنبي على عرش ظاهرة الشاعر المدرسة، فهو من أكثر الشعراء العرب الذين أسسوا بنصوصهم وجدان الشعراء الذين جاؤوا بعده، ليصبحوا تلاميذ في مدرسته، يدخلونها في بداياتهم بشكل خاص وقد يبقون فيها طويلاً، وتتأثر نصوصهم الأولى وحتى اللاحقة بظلال نصوصه وصور معانيه.
وقد تنبه المتنبي إلى ما يحدثه الشعر في الشعر من أثر فقال:
وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله
ولكن لشعري فيك من نفسه شعر
ولبيان مدي تأثير شخصية المتنبي الشعرية نطالع قول الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) من قصيدة نظمها عن المتنبي على لسان الجن:
واختال غير قليل ثم قال لهم
سميته المتنبي فانتشوا طربا
وزلزلوا البيد حتى كاد سالكها
يهوي به الرحل لا يدري له سببا
أما الإشارة إلى نصوصه واقتباس صوره وأبياته فالأمثلة عليها أكثر من أن نعدها، لأننا سنجد منها ما لا يمكن حصره في أغلب دواوين الشعراء العرب من عصر المتنبي حتى اليوم ، كأن المتنبي لم يغب من ذاكرة الشعر ونصوصه مازالت حية قادرة على إنتاج بُعد إبداعي غير مسبوق ومتماشٍ مع كل العصور، ولعل أكثر بيت من أبيات المتنبي حضوراً وتأثيراً في أشعار غيره من الشعراء هو بيته الذائع:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
ولعل السبب في ذلك هو أن نصوص المتنبي متجددة لا تبلى ولا يتجاوزها الزمن، بل هي التي تتجاوز الزمن لتبقى دائماً وأبداً حية نابضة متدفقة لا تنبض محققة نبوءة المتنبي عن نفسه حينما قال:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
أو حينما قال:
لتعلم مصر ومن بالعراق
ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيت وأني أبيت
وأني عتوت على من عتا
وما كل من قال قولا وفي
وما كل من سيم خسفا أبى
ومن جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى
أو حينما قال:
عِش عَزيزاً أَو مُت وَأَنتَ كَريمٌ
بَينَ طَعنِ القَنا وَخَفقِ البُنودِ
لا بِقومي شَرُفتُ بَل شَرُفوا بي
وَبِنَفسي فَخَرتُ لا بِجُدودي
إِن أَكُن مُعجَباً فَعُجبُ عَجيبٍ
لَم يجِد فوقَ نَفسِهِ مِن مزيدِ
أَنا تِربُ النَدى وَرَبُّ القَوافي
وَسِمامُ العِدا وَغَيظُ الحَسودِ
أو حينما قال مفتخراً بنفسه بأسلوب المدح الذي يشبه الذم:
وقد كنتُ أدركتُ المُنى غير أنَّني
يُعَيّرُني أهلي بإدراكها وَحدي
- أبو العلاء أول المعجبين المتأثرين بمدرسة المتنبي ورأسهم:
قبل البداية ولمعرفة مكانة المتنبي لدى أبي العلاء نورد هذه الحكاية:
- ذُكر المتنبي في مجلس الشريف المرتضى (على بن الحسين بن موسى المعروف بالشريف المرتضى، كان يبغض المتنبي ويتنقصه ودفاع أبي العلاء أمامه عن شاعره المفضل وتعرضه لسخطه مشهور) وجماعته, فأخذ الشريف يطعن على المتنبي, ويضعف شعره, ويذكر مقابحه, وكان المعري حاضراً فأثنى على المتنبي, وقال: هو أشعر الشعراء وأحسنهم شعراً, ولو لم يكن له إلاّ قصيدته التي أولها: لكِ يا منازلُ في القلوب منازلُ.
فأمر به الشريف أن يضرب بالسياط, فضُرب وأُخرج, فعظم ذلك على من حضر المجلس، وقالوا للأمير: رجل كبير من أهل العلم تضربه لما يقول عن المتنبي أشعر الشعراء, ما ذلك بصواب! فقال: ليس كما قلتم, وإنما ضربته على تعريضه بي! قالوا: وكيف ذلك؟ قال: لأنه لم يفضله بقصيدة من عالي شعره, وإنما فضّله بتلك القصيدة, مع إنها ليست من عالي شعره, لأنه يقول فيها بعد أبيات:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ٍ
فهي الشهادةُ لي بأنّي كاملُ
البداية نجدها عند أبي العلاء المعري (كان أبو العلاء 937- 1057م على رأس المعجبين بمعاصره المتنبي، وقد تابع المعري في الإعجاب بالمتنبي عدد من تلاميذه كابن فورجة وأبي المرشد المعري) في قوله:
وإني وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُهُ
لآتٍ بما لم تستطِعْهُ الأوائلُ
ومن قبله قال المتنبى:
سيعلمُ الجمعُ ممن ضمَّ مجلسُنا
بأنني خيرُ مَنْ تسعى به قدمُ
وقال:
وأرسلتِ طيفاً خانَ لمّا بعثتِهِ
فلا تثقي، من بعدهِ، برسولِ
ومن قبله قال المتنبى:
كلّما عاد مَن بعثتُ إليها
غارَ منّى وخان فيما يقولُ
وقال:
فخرّقن ثوبَ الليلِ حتى كأنني
أَطَرتُ بها في جانبيه شرارا
ومن قبله قال المتنبى:
إذا الليلُ وارانا أرتنا خفافها
بقدح الحصى ما لا تُرينا المشاعلُ
وقال:
وإنى جوادٌ لم يُحلَّ لِجامهُ
ونضوُ يَمانٍ أغفلتهُ الصياقلُ
ومن قبله قال المتنبى:
وما فى طبِّهِ أنى جَوادٌ
أضرَّ بجسمه طولُ الجمام
وقال:
وإنْ سدّدَ الأعداءُ نحوك أسهُماً
نكصنَ، على أفواقِهن، المعابلُ
ومن قبله قال المتنبى:
فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ
تكسّرت النِصالُ على النصالِ
وقال:
خفف الوطء ما أظن أديـ
ـم الأرض إلا من هذه الأجساد
وهو من تأثير قول المتنبي:
يدفن بعضنا بعضاً وتمشي
أواخرنا على هام الأوالي
ومن بعدهما جاء الزهاوي في القرن العشرين ليقول:
أكثر الترب عظام
من ضلوع وصدور
سحقتها أرجل الدهر
وأقدام العصور
ابن زيدون أحد المعجبين المتأثرين بمدرسة المتنبي:
ومن بعد أبي العلاء تأثر عدد كبير من الشعراء بشعر المتنبى أشهرهم ابن زيدون: أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن زيدون المخزومي القرشي المعروف بابن زيدون 1003- 1074م وزير وكاتب وشاعر أندلسي عارض نونية المتنبي التي مطلعها:
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
بنونية مطلعها:
أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا
وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا
وتأثير المتنبي على ابن زيدون ظهر ليس في شعره فقط بل في نثره أيضاً جاء ذلك في رسالته الجدِّيّةً التي كتبها إلى أبي الحزم بن جهور من سجنه مستعطفاً فيها طالباً الرحمة والعفو وإطلاق سراحه، حيث استشهد فيها كثيراً بأشعار ومعاني المتنبي كقوله: «بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلي لك، وسمع الأصم ثنائي عليك» وهذا من قول المتنبي:
أنا الَّذى نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ
وقوله: «هل أنا إلَّا يدٌ أدماها سِوارها، وجبين عضَّ به إكليله» متأثراً بقول المتنبي:
بنو كعبٍ وما أثرت فيهم
يدٌ لم يُدمها إلَّا السِّوارُ
بها مِن قِطعة ألمٌ ونقصٌ
فيها من جلالته افتخارُ
وقوله: «هذا العتب محمود عواقبه،
وهذه النبوة غمرة ثُمَّ تنجلي»
متأثراً بقول المتنبي:
«يا أيّها المحسنُ الشكور من جهّتي
والشُكر من قبل الإحسان لا قبلي
لعلّ عتبك محمود عواقبه
وربما صحت الأجسام بالعلل»
وفي الرسالة يقول ابن زيدون: «فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً فأفعاله الّلاتي سررن ألوفٌ» وهذا من قول المتنبي:
«و كلُّ وِدادٍ لا يدُوم على الأذى
دوامَ وِدادي للحُسين ضعيفُ
فإن يكن الفعل الذي ساءَ واحداً
فأفعاله اللائي سررن ألُوفُ»
وفي الرسالة يخاطب ابن زيدون ابن جهور قائلاً: «بل وجدت آجرّاً وجصاً فبنيت. ومكان القول ذا سعة فقلت» وهذا من قول المتنبي:
أجاب دمعي وما الدَّاعي سوى طلل
دعا فلبَّاه قبل الرَّكب والإبلِ
و قد وجدت مكان القول ذا سعةٍ
فإن وجدت لساناً قائلًا فقُلِ»
وفي نهاية الرسالة يقول ابن زيدون: «شكوى الجريح إلى العقبان والرَّخم» من قول المتنبي:
«و لا تشك إلى خلق فتشمته
شكوى الجريح إلى الغربان والوهم»
- المتنبي المدرسة وتأثيره في شعراء العصر الحديث:
وفي عصر النهضة - نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين) حضر أبوالطيب المتنبي في الشعر العربي بأبعاد مختلفة، فبرزت صورته كـ «نموذج»، حاول شعراء التجديد وفي طليعتهم محمود سامي البارودي، وشوقي، والجواهري أن يصوغوا على طراز صياغة المتنبي، وأن يعارضوه في قصائدهم. و بعد انبثاق الرومانسية العربية الجديدة على يد جماعة أبولو والشعراء المهجريين لم يعد المعاصرون يعارضونه، بل ظهر المتنبي بثوب آخر فهو «البطل» وهؤلاء سعوا إلى بيان مكانته وبطولته وكبريائه في أشعارهم، لكن لا تزال شخصية المتنبي لا توظف رمزاً، و لا يتعدى حضوره إلاَّ سرداً لبطولاته وحاجة الأمة في نهضتها إليه.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين تم استحضار المتنبي عند الشعراء: أمل دنقل، البياتي، سميح القاسم، عبدالرحيم عمر، محمود درويش.
وأخذ شكلاً متطوراً، ليصبح أداة فنية «قناعا»، يتمكن الشعراء من قول ما هم محرومون من إعلانه في مجتمع يعيش في حالات رقابية متعددة.
فنصوص المتنبي أكثر طواعية ومقدرة على استيعاب تجارب الشاعر المعاصر وإلقاء ظلالها على الأحداث الجارية، فقد عايش المتنبي هذه القضايا نفسها في عصره - عاصر سقوط بغداد واحتلالها بأيدي القرامطة، وشاهد مرحلة الصراع الإسلامي / الرومي، وكثيراً من الأحداث والنكسات التي عصفت بالعالم الإسلامي وأثّرت فيه-. والشعراء إذ ينهلون من مخزون تجربة المتنبي، ويرومون حواراً متخيّلاً مع سيف الدولة أو كافور، فهذا يشكل همزة وصل بين ماضي المجتمع العربي ويمثله المتنبي (المدرس) وحاضر ويمثله شعراء حاليون (كتلاميذ)، ويسلّط ضوء المكاشفة والمساءلة على ما يشهده الواقع العربي المعاصر من ألق وقلق.
** **
- عضو اتحاد كتاب مصر