خالد الغيلاني
(جحا التاريخ والرمز)؛ هذا الإرث الإنساني الكبير؛ الذي يحتل جزءًا من الذاكرة الجمعية، ولا غرابة أن يعتقد بعضهم بوجود جحا واحد فقط لا غير؛ إلا أن الواقع يخبرنا أن هناك جحوات آخرين فهناك جحا التركي «خواجة نصر الدين»، والإيراني «ملا نصر الدين»، والأرميني «آرتين»، واليوغسلافي «آرو»، والمالطي «جوهان»، والإيطالي «برتلدو»، والروسي «بلدكييف»، والألماني «تل أوبلن شبيجل»، واليوناني «ديوجين»، والهندي «الشيخ تشللي»، واليهودي «كوهين»، والإنجليزي (Joha the fool ) وقد أخذه الإنجليز من العرب، وهناك أيضاً جحا الأفريقي، والآسيوي.
الشخصية الجحوية
كل الشعوب والأمم تقريبًا بلا استثناء صممت لنفسها جحاها الخاص بها، ومع اختلاف الأسماء، والحكايات؛ إلا أن شخصية جحا المركوزة في الأذهان تكاد تكون ذلك الحيَّالَ الذي يتصنع الحماقة، وحماره الذي لا يفارقه، لم تتغير كثيرًا، وربما أصبحت كالعلامة المميزة له أو البراند المسجل باسمه؛ فبينما تجده ملا نصر الدين الهزلي في إيران؛ لا تلبث أن تجده خواجة نصر الدين الحكيم في تركيا، أو غابروفو المحبوب في بلغاريا، أو آرو المغفل في يوغسلافيا، أو آرتين صاحب اللسان السليط في أرمينيا، ويمكننا أن نخرج من هذا Character الذي رسمته الشعوب له؛ أنه شخصية بسيطة كما تكون البساطة في أحلى صورها، محبوبة لا تتكلف أخلاقها بل تندفع على سجيتها، وتتصرف على طبيعتها، سليطة حين يستثيرها موقف ما، وتعروها الغفلة دائمًا قد أجمعوا أن فيها براءة الأطفال وسذاجة المغفلين، وربما كانت المواقف التي تتحامق فيها هي من استجلبت حب الناس لها، وإنه لمن المقرر في طبائع الناس أن الشخصية المرحة المنبسطة والمنفتحة على غيرها، ولا تلي منصباً كبيرًا، وتكون أقرب إلى الفقر من الغنى، وتفتعل المواقف الطريفة يكون فيها جاذبية عالية وإدهاش أكبر؛ أينما حلت تستقطب الناس حولها وخذ مثلًا من قريب ليس بالبعيد فجحا التركي (نصر الدين خوجة الرومي) ولد عام 1208م بالقرب من أنقرة عاش حياته في ظل الدولة السلوجقية وقد تلقى تعليما دينيا طيبًا، وكان مرشدًا يتندَّر في مواعظه الصوفية وروي في ذلك قصص فيها من خفة الدَّم وملاحة الروح الشيء الكثير حتى قيل إنه كان السبب في إنقاذ بلدته من بطش تيمورلنك المغولي، أما جحا العربي فهو دجين بن ثابت الزاري تابعي أمه خادمة لأنس بن مالك روى عنه أسلم مولى عمر وهشام بن عروة وعبدالله بن المبارك، وكان على قدر وافر من العقل لذلك حتى ذهب قوم فقالوا إنه جحا المفترى عليه.
الكراكتر الجحوي بين النمطية والتأثير
لو أخذنا أحد هؤلاء الجحوات (نصر الدين خوجة)؛ فوفقا للبرفسور مكايل بيرم التركي ذي الأصول الإيرانية؛ فإن اسمه ناصر الدين محمود الخوئي من مقاطعة أذربيجان في إيران أرسله الخليفة في بغداد لتنظيم المقاومة ضد الغزو المغولي، وإن كان بعض الكتاب الإيرانيين يقول إنه من أهل أصفهان واسمه مشهدي. أما جحا العربي فهو دجين بن ثابت الفزاري تابعي كما سبق، ويرى بعضهم أسبقية ظهور شخصية جحا وأولية إبداعها في التاريخ العربي، وبعضهم يرى أن الأهم هو أننا أحيينا هذه الشخصية فينا مع تعاقب الأزمان، والأجيال؛ ليظل المبدع هو القادر على نقلنا من معرفتنا المكتسبة إلى يقظة الفكر، ويحدد محمد رجب النجار في كتابه (جحا العربي) ملامح هذه الشخصية بأنها الناقد السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي؛ ولكن بأسلوب ساخر ذلك الذي يهون على الناس ما يعانون، ويعود السبب في انتشار شخصية جحا إلى أن الوجدان الجمعي للشعوب يبادر فينتخب رمزا فنيا ساخرا يعكس من خلاله آراءهم في السلطتين العسكرية والسياسية، وهذا في رأيي قد يكون صائبا إذا قلنا إن الوجدان الجمعي هو المطحنة الهائلة والآلة الكبيرة لمصنع الحياة التي تخرج من امتزاج طبقات المجتمع تصنيفات شتى ومنازع متنوعة لا يأتي عليها الحصر فسبحانك اللهم من صانع حكيم؛ إلا أن من نافلة القول أن هذه الشخصية الكاريكاتورية التي تضحكنا قد استطاعت أن تفعل ما لم يستطعه غيرها أن يفعله، وربما لو حاول أحد أن يحذوا حذوها لكان مصيره غياهب السجون،؛ فجحا كان بارعًا في نقد الحكام والسخرية من ظلمهم وسوء إدارتهم للبلاد ولا يضاهيه في ذلك أحد، وهذا أمر تراه عياناً واضحًا أن الجهات الرسمية في كل البلاد يتسع صدرها وتلين عريكتها للنقد الحاد في المسرحيات الهزلية أكثر منه في البرامج الحوارية التي تتلبَّس طابع الجد والمعارضة الواضحة، وربما كانَ هذا من بركات جحانا على الشعوب حيث ألهمها النقد في قالب الكوميديا المضحكة ولو أخذنا نموذجا جحويا كما في جحا الألماني؛ لرأيناه يظهر بشخصية الريفي سليم الفطرة، الساخر من أهل المدن، وفي ذلك قصة في تراثهم تروى: سأل أحدهم تل (جحا) كم من الزمن يلزمني للوصول إلى مدينة كذا فقال له تل: سر في طريقك فحسبه الرجل لم يسمع فأعاد السؤال، وأعاد (تل) نفس الإجابة؛ فغضب الرجل وقال له أجب عن سؤالي يا غبي ثم تركه ومشى في طريقه يكيل له اللعنات، وابتعد الرجل عنه قليلا؛ هنا صاح (تل) وطلب منه أنتوقف، وألقى إليه بهذه الحكمة: إذا سرت على هذا النهج بلغت المدينة بعد ساعتين. وهنا نسأل هل كان جحا الألماني في حاجة لقياس اتساع خطوات الرجل؛ فإن كان ذلك فإنه يدل على عقل رياضي جبارٍ فكيفَ له أن يعرف من اتساع خطواته المدة التي يحتاجها للوصول؛ إن العقلية الألمانية الجادة تظهر جليًّا في جحاهم هذا؛ فأصحاب العقول الكبيرة لا يعطونك الإجابة كما تريدها أنت ولكن كما يريدونها هم ولا بأس أن نقرر مسألة مهمة جدًا؛ فابن تيمية أشار إلى العقليين الكبار فقال إنك عندما تريد أن تقنعهم فلا بد أن تسلك مذاهبهم؛ فلا تأتي لعالم فيزياء عتيد وتقنعه بالجغرافيا ولا لصوفي محترق بالحب؛ فتشقق شعرة ابن سينا والفارابي عنده؛ ولهذا أصل ففي صلح الحديبية أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يبعثوا هداياهم عندما خرج لهم رجل بدا من هيئته تعظيم المناسك ومن قضى عمره مع الآثار فإن أردت أن تفوز بسخطه فكن آرائيًّا، إن المبادئ الأخلاقية يكتنفها الغموض الشديد، فالمكانة والقوة تعطيها نوعًا من المعيارية إذا احتكمنا للتعالي الأخلاقي ودرجاته؛ على أن هناك حدًا يتسم بالوضوح إلى حدما قد يتولد من فهوم جمعية فطرية فيما يتعلق بتحديد معانٍ كالظلم والعدل؛ لذلك كانت رمزية النظام محل جدل واسع عند دريدا؛ وسأضرب مثلا فالنبي- صلى الله عليه وسلم- عندما اختلف الزبير مع أنصاري في سقي الماء فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- اسقِ يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري فقال يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله ثم قال يا زبير اسق ثم أحبس الماء حتى يرجع إلى الجُدُر فاستوفى النبي- صلى الله عليه وسلم- حق الزبير كاملا؛ لأن لقائلٍ أن يقول لماذا لم يعف النبي- صلى الله عليه وسلم- عن خطئه وفي حديث آخر يقول النبي- صلى الله عليه وسلم- لرجل نكث مرة وعاد أخرى لحرب النبي فسامحه في الأولى وتحجج فيها ببناته وعاد وطلب المسامحة في الثانية فلم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقال لا تمسح عارضيك تقول خدعت محمَّدًا مرتين فهذا الغضب النبوي تجده في آية {فلما آسفونا انتقمنا منهم}، وقد يقول قائل لماذا لم يمهلهم الله أكثر فمقام الله وعلمه التام قد اقتضى هذا العقاب ومكانة النبي- صلى الله عليه وسلم- اقتضت تصرفات مناسبة مع الأخطاء التي كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يزنها بميزان الحق الذي أراه الله إياه وهذا الميزان قد يوجد بدرجات ولكنه في أدنىمستوياته لدى غيره من الخلق، لذلك كان الحكم متروكاً لله في الآخرة بين الخلق كما ذكر في آيات لأنه الذي يعلم ما لكل أحد على الحقيقة لذلك قال النبي- صلى الله عليه وسلم- إنما أحكم بنحو ما أسمع إذا اختصموا إليه، لذلك فالمكانة والقوة تقتضي تفسيرًا للمبادئ الأخلاقية، ومن هذا طاعة ولاة الأمر فالمكانة التي كانوا عليها تعطي تفسيرات وتحديد مائزة للمبدأ الأخلاقي (نرجع) إلا أننا نفهم من جحانا الألماني مدى الحكمة والتأني اللتين كان عليهما فهو شخص ليس عجولا ولا يلقي الكلام على عواهنه وربما لم تعجبه شخصية السائل فأراد أن يعطيه درسًا بليغًا، وعلى كلٍّ فجوابه يقطر حكمة وعبقريةً وإفحامًا. وكما قلنا هؤلاء هم الألمان، وهذا جحاهم التزامًا وجدة. وهذا ما يجعلنا نشاهد أن الجحوات يختلفون بحسب البلدان؛ فلو جئنا مثلاً لشخصية جحا العربي؛ فإنا نجده ذلك الرجل الكبير في السن، الفقير جداً مع زوجة واحدة، وولد واحد، وحمار واحد؛ إذا كسب بعض المال فمن المتوقع أن يخسره قريبًا لكنه مع ذلك قنوع، وتراه ممتنًّا ألا يحدث الأسوأ في حياته، وإذا تأملت هاتين الصورتين النمطيتين عن جحا؛ وهي كونه فقيراً جداً، وأنه يتمني عدم حدوث الأسوأ لرأيتهما صورة حقيقية لوضع الشعوب كافةً فهي في الغالب تشتكي الأوضاع الاقتصادية غير الجيدة؛ كما أنها تضع يدها على صدره من خوف وقوع الأسوأ في المستقبل.
جحا الضمير الشعبوي
إن اصطناع الرموز المعبرة شيء مركوز في الجبلة الجمعية إن الدعاة الذين يقولون بموت النظام الأبوي لم يحالفهم التوفيق فالنظام الأبوي تجده في النظام الرمزي وفي جوانب كثيرة من الحياة إذا قلنا أن المركز هو الأساس أو المحدد لهذا المفهوم الذي اقتنص بعض معانيه من حيثية المرأة ومكانتها وأغفل البناء النمطي للكون أو طبيعة المجتمعات التي تميل إلى انتخاب الأبطال الذين يؤدون الأدوار التي لا يستطيعها العامة الذين لا تتولد لديهم القوة الكافية؛ لذلك كان التوحيد في المفهوم الإسلامي هو توسيع لخانة الأبطال وفتح لمجال أرحب حتى تكون الأمة ولادة للأبطال بشكل أكبر عندما تتسع صالات التدريب التوحيدية فتشمل المجتمع كله، لذلك عندما كان جحا رمزًا أو ضميرًا فإن هذا قد يعني انخفاضا في ترمومتر التوحيد عندما برز بطلًا فكاهيًّا تتنفس به الشعوب لأننا نعلم أن الامتلاء يعني الانفجار، لذلك كان البكاء أو الصلاة أو الفضفضة أشياء مريحة تخفف من الكبت الذي يعيشه الإنسان والمجتمعات هي الإنسان الكبير الذي يبحث في نفسه ما يبحثه الإنسان الواحد ولكن في شكل جمعي. وكما ذكرنا سابقًا عن وجود أكثر من جحا ففي القصص الهندية نرى جحا دائماً شخصاً خاسرًا ينبغي الحذر منه فهو مخلوق ضعيف يستسلم للأقوياء دائمًا. أما في الحكايات الصقلية والعربية فإنه يبرز قدرةً فائقة على الخداع حتى في أكثر الحالات خطورة ويجيب بأجوبة مبهرة؛ سألته زوجته يوماً: من أعظم السلطان أم المزارع (جحا لا يحتاج إلى أكثر من نصف دقيقة حتى يجيب؛ أجاب جحا المزارع طبعاً؛ لأنه إذا كان المزارع لا ينتج الطعام أين سيكون السلطان إنه سيموت من الجوع على جانب النهر). وهذه الحكمة العميقة السهلة التي تدعو إلى التفكر، وتوقظ الشعوب إلى أهميتها، وتجعل الحاكم هو من في حاجة المواطن لا العكس، وقد تجد في النوادر المشهورة كنادرة (خطبة الجمعة) أو (تسلق الشجرة) إشارات ولمحات عميقة جداً ففي نادرة خطبة الجمعة يرشدنا جحا إلى وجوب هجر المواضيع المألوفة التي اعتاد الخطباء، والناس تناولها وكأنها دعوة لتجديد الخطاب الديني بما يوافق حاجات العصر. وأما نادرة تسلق الشجرة وأخذه حذاءه معه فهو دعوة للتسامي والبحث عن الذات في مكان أعلى وأكثر رقياً. وقد تنوعت موضوعات النوادر الجحوية وهو ما يعني استحالة أن تصدر جميعها عن شخص واحد كما يرى العقاد، ونستطيع القول إن جحا ظهر لأول مرة تقريباً في القرن التسع الميلادي، أو قبله بقليل وسرعان ما انتقل إلى عالم البحر المتوسط، وتابع العرب إلى صقلية وأصبح يعرف بـ (غويفا) وفي تركيا اندمجت أسطورته مع صوفي يدعى نصر الدين في حين أن العثمانيين قاموا بتصديره إلى البلقان. وفي الثقافة السواحلية الإندونيسية يتم إخبار العديد من قصصه تحت اسم (أبو نواس) وهذا ما يجعله يختلط مع الشاعر المعروف بأبي نواس، وفي الصين يعتقد أنه أيغوري من شينجيانغ؛ في حين يعتقد الأوزبك أنه من بخارى. وعلى ما يظهر أن القول إن العرب هم الذين صدوره للعالم هو الأقرب. إن جحا من خلال حياته والعديد من نكاته ليس إلا شخصاً يمسك مرآة عاكسة لمدى الهشاشة والقوة في النسيج المجتمعي غالباً ما تظهر في ثوب المفارقة؛ حتى تمدد في الحياة الثقافية لكل الشعوب، وهذا ما يعطيك دلالة واضحة أن الشعوب أنى توجهت شرقاً أو غرباً لديها نفس الهموم؛ فهي تشتكي من وطأة الحياةِ وتطمح للديمقراطية، والعدالة وتريد اقتصاداً عادلا، وحريةً معقولة.
جحا والحالة الغربية
بالنسبة للغرب فقد نمى في مخيلة الجماهير الغربية شخصيات مغولية مثل سندباد، وعلي بابا ينطوي تحتها السحر الشرقي، والكنز الخفي ومعارك السيوف؛ ومع ذلك فإن جحا يتمتع بشعبية طيبة لديهم حتى قيل إنه من ألهم الرواية الإسبانية العظيمة (دون كيشوت)؛ التي تعد أشهر رواية في التاريخ حسب تصنيف أعدته هيئة الكتب النرويجية عام 2002، وقد ألف الكاتب الروسي ليونيد سولوفيف كتاب مغامرات بخارى (1938) واتخذ من شخصية جحا داعيةً جوّالا يضطرب في البلاد الآسيوية هرباً من ظلم الحكام. كما يظهر جحا أيضا كمعارض حكيم في الحكايا البغارية (سلي بيتر)؛ حتى أنه كان الشخصية الرئيسة في إحدى المجلات التي أطلق عليها (ملا نصر الدين) 1906-1917 التي نشرت في أذريبجان، وقرئت عبر العالم بلغات عدة أسسها خليل زاده مظهرًا عدم المساواة، والاستيعاب الثقافي، والفساد ساخرًا من أنماط الحياة المختلفة، ومن رجال الدين المتطرفين داعيًا إلى قبول الممارسات الغربية؛ وقد تم حظر المجلة عدة مرات، ومع ذلك فقد كان لها تأثير على الأدب الأذربيجاني، والإيراني.
جحا بين الحقيقة والخيال
من أقدم ما وصلنا من ذكر لجحا قول عمر بن أبي ربيعة (93هـ):
دلهت عقلي وتلعبت بي
حتى كأني من جنوني جحا
نقلاً عن كتاب نثر الدرر للآبي (422هـ)؛ إلا أنه لا يوجد في ديوانه المطبوع مما جعل صاحب كتاب (في الأدب الشعبي الإسلامي المقارن) يتردد في قبوله، وذكر ابن النديم الذي أخرج كتابه الفهرست عام 377 عنوان لكتاب؛ سماه نوادر جحا وذكره الجاحظ في كتابه البغال وينكر ابن حبان وابن حجر العسقلاني أن يكون دجين المحدث هو جحا مع إقرارهما بوجود شخصية تدعى جحا. ويقول العقاد في كتابه (جحا الضاحك المضحك): (مما جاء عن جحا في كتب الأدب العربي متناقض؛ لا يستقر على قرار وليس في الإمكان أن ينقل كل ما نقل في تلك الكتب عن رجل واحد وإلا لزم أن يكون رجلا لا عمل له إلا إثارة الضحك بنوادره، ولا عمل للرواة؛ إلا النقل عنه) وهذا له وجهه، واحتماله لكن وقوعه ليس بالبعيد؛ لأنه لو افترضنا أنه عاش 70 سنة مثلا منها 50 سنة وفي كل يوم تقع له ثلاث نوادر؛ فإننا في الشهر نتحصل على 90 نادرة وفي السنة ما يقارب الألف حكاية، أو تزيد وفي الخمسين سنة 50 ألف حكاية، ونحن نرضى بأقل من ذلك لأن مجموع النوادر لا يبلغ النصف من هذا العدد. ويقول رينيه باسيه الفرنسي (1892م) في مقدمة ترجمته الفرنسية لنوادر جحا إن النص العربي المطبوع لها في بولاق ليس سوى ترجمة عن التركية (في الأدب الشعبي الإسلامي المقارن)، وهذا يعني أن حكايات جحا إنما وصلتنا بالواسطة؛ أي أنها نقلت مع غيرها إلى التركية ثم انتقلت إلى الغرب في القرن الخامس عشر والسادس عشر ثم اطلعنا عليها نقلًا عن التركية؛ وباسيه هذا يشك في وجود نصر الدين خوجة أصلا ويشاركه في ذلك مارتن هارتمان وفسيلسكي الألمانيان. أما كريستنسن الدنماركي فيرى أن النوادر في العربية منقولة عن التركية وليس عن كتاب نوادر جحا الذي ذكره ابن النديم في فهرسته؛ وهذا من قلة الاطلاع على المصادر العربية كما أظن إلا أن يقصد مؤلفًا بعينه كما سبق، ويبعد في تصوره فسيلسكي فيرى وجوب الجزم بأنه قبل زمن نصر الدين لم يكن وجود حقيقي ولا وهمي لجحا ولا لحكايات جحا؛ وهذا أيضا من قلة الاطلاع على المصادر العربية، وقد ترجم حكمت شريف وهو أديب ومفكر ورحالة وصحفي النوادر التركية إلى العربية في كتابه المعروف (نوارد جحا) ويعلق على ذلك الدكتور النجار في كتابه (جحا العربي): (على حين تلك النوادر عربية الأصل، ومدونة في كتب التراث العربي التي ألفت قبل ظهور نصر الدين خوجة بعدة قرون) حتى إن الأستاذ عبدالستار فراج في (أخبار جحا) ليسميها عمليسطو منظم على حد تعبيره ويرى باسيه وغيره؛ أن النوادر التركية ترجمة للفكاهات العربية القديمة التي كانت منتشرة بكثرة في ذلك الوقت نهاية القرن الرابع الهجري (10م) وقد قوبلت نظريته بالارتياب، فهناك عدد من الدارسين منهم كريستنسن لا يؤمنون بترجمة فكاهات جحا القديمة، وهناك عدد من الدارسين أيضاً يرى أنها خاصية مشتركة في الأدب العالمي كله، وما فكاهات خوجة إلا نوع من القصص الشعبي الذي يوجد في كل مكان. ويقول (روزنتال الألماني) نوادر نصر الدين مسبوقة بغيرها في عربية العصور الوسطى وجحا أشهر أصحاب النوادر من العرب وبعض النوادر التركية تعود إلى مصدر فارسي قديم (1040م) (مينوكيهري) ويسمونه جحا، وهذا في الشعر فقط أما في غير الشعر فهو (ملا نصر الدين) وقد ذكره جلال الدين الرومي (666هـ) في المثنوي، وذكره منوجهري من شعراء القرن الخامس. ويقول الدكتور رجب (الدراسين الأجانب قد أجمعوا تقريبا على أن النوادر المنسوبة لجحا الأتراك ليس بقائلها كلها) بل أضيف إليها ما وصل من نوادر فارسية، وعربية؛ وقد وجدت نوادر مشتركة نسبت إلى جحا العربي، والتركي، والفارسي كما أن بعض النوادر تتطابق مع الحكايات الهندية القديمة كما في (كليلة ودمنة)؛ كما وجدت في كتاب (محاورات بوذا الحكيم والساذج ) لذلك يقول العقاد (يستحيل أن تصدر عن شخصية واحدة؛ لتباعد البيئات التي تروى عنها؛ وهي نتيجة ما وضعه الترك وما وضعه غيرهم من عامة الشعوب الشرقية والإسلامية وبعضه مما وضعه غير المسلمين من جيران العثمانيين كالأرمن) فهل نحن أمام مؤلف هائل مجهول وكأنه روح الآلهة له قدرة تأليفية خارقة، وطبعٌ فكاهيٌّ عظيمٌ، ويد تتسلل لكل مكان فصنع لكل أمة جحاها؛ أم أنها الطبيعة البشرية التي تأخذ من بعضها أجمل ما وهبت لها الحياة وهي الفكاهة والأدب العالي غير المتكلف ولا المعقد عندما يكون نورًا يتسلل من نوافذ الحياة إلى كل البلاد ليكون رحمةً من رحمات رب مجيد.