في كتابه الجديد « الحروب الخفية: أسرار الصراع الروسي الأوكراني « الذي صدر عن دار نشر سُويْ الفرنسية هذا العام 2022، يستعرض الكاتب والصحفي الفرنسي مارك إندويلد عددا من المحاور التي تسمح بفهم ما يدور خلف كواليس الحرب الروسية الأوكرانية.
فمنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، يطرح المحللون الإستراتيجيون السؤالين التاليين: هل أصيب بوتين بالجنون؟ لماذا يجازف بهذه «الحرب الخاطفة» التي تبدو نتيجتها غير مؤكدة؟
منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، كانت لروسيا اليد الطولى على الترسانة النووية الأوكرانية سواء تعلق الأمر بتوريد الوقود وبالصيانة والسلامة وإدارة النفايات أو بالتعاون الدولي بشأن قضايا الانتشار النووي من خلال وكالة الطاقة الذرية AIEA. ولهذا أراد الرئيس الروسي بوتين وضع حد لرغبة أوكرانيا في بسط سيادتها على منظومة الطاقة النووية ذات التقنية المزدوجة المدنية العسكرية. هذا الأمر يفسّر سبب هجوم القوات الروسية على محطة تشيرنوبيل النووية التي تم إغلاق مفاعلاتها والتي يتم تخزين الكثير من النفايات النووية فيها وأيضا محاولة سيطرة تلك القوات على محطة زاباروجيا التي تعد أكبر محطة للطاقة في أوروبا.
في خضم هذه الأجواء، يؤكد مؤلف كتاب» الحروب الخفية» أن العالَم دخل حرباً باردة جديدة، حيث أصبحت الطاقة سلاحاً حقيقياً تلعب من خلاله كل من الولايات المتحدة والصين وروسيا دوراً مهماً في رقعة الشطرنج النووية العالمية.
يستعرض كتاب «الحروب الخفية» الدور الرئيسي الذي يلعبه الغاز في الحرب الدائرة بين روسيا وأكرانيا. فمنذ ما يقرب من العشرين عاما ولا يزال الصراع قائماً بين روسيا وأوكرانيا بسبب الغاز، فأول خط أنابيب غاز نورد ستريم تم تشغيله في عام 2012 ويربط روسيا بألمانيا عبر بحر البلطيق مباشرة ويهدف إلى تجاوز خط أنابيب الغاز الذي يمر عبر أوكرانيا والذي يسمح لها بتحصيل إيرادات كبيرة.
يُلقي كتاب «الحروب الخفية» باللوم على دول الاتحاد الأوروبي كما جاء على لسان رئيس شركة غازبروم الروسية التي تعد أكبر شركة استخراج للغاز الطبيعي في العالم والذي يحذّر الأوروبيين بقوله: تغلبوا على خوفكم من الروس وإلا ستفقدون الغاز. وبسبب عدم اكتراث الولايات المتحدة والصين وروسيا بالأمن والسلم الدوليين أصبح مهمة فرنسا مثل كافة الدول الأوروبية الأخرى تنحصر في دور المراقب.
تكمن أهمية كتاب « الحروب الخفية « في قدرته على التأكيد على أن حرب الغاز يُعتبر ساحة معركة خلفية بين الروس والأمريكيين. فإذا كان الغاز أداة ضغط لبوتين، فإن الأمريكيين استغلوا الحرب في أوكرانيا من خلال دفع الأوروبيين إلى التحرر من هيمنة الغاز الروسي. سيلعب الانقسام الأوروبي دوراً مهماً لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، لأنه منذ عام2014 أصبح الأمريكيون مصدرين للغاز بفضل استغلالهم للغاز والنفط الصخري المستخرج بتقنية التكسير الهيدروليكي وأيضا بفضل حسن استخدامهم لناقلات الغاز الطبيعي المسال GNL. إن إستراتيجية الحرب الغاز تعدّ الآن جزء لا يتجزأ من عقيدة الأمريكيين الدفاعية. وكان لهذا الانفجار الكبير للغاز الطبيعي المسال big bang رد فعل من جانب الروس ولذلك بدأوا في تصدير الغاز الطبيعي المسال من سيبيريا وفقا لشراكة تمت بين شركة توتال الفرنسية وشركة نوفاتيك الروسية.
يقدم مؤلف كتاب «الحروب الخفية» تحليله للأهمية الإستراتيجية للغاز والنفط التي يتبناها الأمريكيون منذ ما يقرب من عشر سنوات لا سيما أثناء ولاية ترامب الذي اصطدم مع المستشارة الألمانية ميركل في عام 2018 بتصريحه: ما الفائدة من الناتو إذا كانت ألمانيا تدفع لروسيا مليارات الدولارات في مقابل الغاز والطاقة؟ معلوم أن الأوكرانيين في السنوات الأخيرة حاولوا الاستفادة من الولايات المتحدة في المجال النووي وذلك من أجل إمدادهم بالوقود أو لبناء محطات طاقة مستقبلية. ففي صيف عام 2021 ، وقعت شركة وستنجهاوس الأمريكية عقداً بأكثر من 30 مليار مع أوكرانيا. ومنذ توليه السلطة في عام2019، أولى الرئيس زيلينسكي الملف النووي المدني اهتماماً كبيراً، الأمر الذي تسبب في خلق فجوة كبيرة ونوع من عدم الثقة بين كييف وموسكو.
ثم يختم مؤلف «الحروب الخفية» كتابه بطرح قضية الخطاب الإعلامي المشبع بالتحليلات العاطفية التي تُظهر خلاف ما تبطن عند الحديث عن الحروب السرية التي تدور خلف الكواليس في مسرح العمليات الأوكراني. ويؤكد المؤلف على أن حرب الغاز يعد العامل الأساسي لاندلاع الصراع المسلح بين روسيا وأوكرانيا، إذ إن دونباس والمياه الإقليمية الأوكرانية في البحر الأسود تحتوي على احتياطيات كبيرة من الغاز والنفط الصخري.
إن هذه الحرب ليست حرباً جيوسياسية فحسب ولكنها حرب اقتصادية أيضاً، لأنها تُخفي الكثير من القضايا الجوهرية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالطاقة. وبعيدًا عن الصور أو التقارير التلفزيونية حول الصراع، يوثّق المؤلف شهادته حول الجوانب السفلية المخفية التي لا يتم التطرق إليها عادةً. إن كتاب «الحروب الخفية» يسلّط الضوء على الوضع القائم بطريقة واضحة ودقيقة كما أنه يبرز علاقة كل من الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي بأسرار الصراع الروسي الأوكراني الخفية.
** **
أيمن منير - أكاديمي ومترجم مصري