ما يميز المفكر الكبير عبدالله الغذامي هو مواكبته المستمرة لحركة الفكر العالمي والإقليمي. هذا التجدّد نابع من إدراك الغذامي لصيرورة الواقع المعيش وتحولاته. بدأ الغذامي مشروعه الفكري بتقديم المنهج البنيوي للثقافة العربية وما اتصل به من مناهج نصوصية وتشريحية وتواصلية. وتمثل هذا المشروع في كتابه الشهير (الخطيئة والتكفير). وأتبع هذا الكتابَ كتباً تكرّس من حضوره كناقد نصوصي مثل (تشريح النص) و(الموقف من الحداثة) وغيرهما. وبعد فترة من الزمن، طرح الغذامي مشروعاً آخر وهو نقد الخطاب الذكوري وعبر عنه في كتاب (المرأة واللغة). وهذا الكتاب أيضاً أتبعه كتباً مثل (ثقافة الوهم) و(تأنيث القصيدة والقارئ المختلف). ثم تحول الفكر الغذاموي إلى عتبة ثالثة تجسدت في مشروع «النقد الثقافي»، وعبر عنه في كتاب (النقد الثقافي) و (نقد ثقافي أم نقد أدبي؟). وبالتزامن مع مشروعه هذا انتقل الغذامي إلى نقد الصورة، وعبر عنها كتاب (الثقافة التلفزيونية). واستمر في الإبداع النقدي والفكري متأملاً بعقله الفذ في مجالات أوسع كالقبيلة والليبرالية والإيمان والألحاد وغيرها.
في (النقد الثقافي) يقدم الغذامي أطروحة أثارت جدلاً لم ينته حتى يومنا هذا. وشعارها المعلن «النقد الثقافي بديلاً للنقد الأدبي». لقد أدرك الغذامي أن النقد الأدبي العربي منذ قرون طوال واجه، ولو ضمنياً، طريقينِ متعارضين: البلاغة والفلسفة، وأنه اتخذ مسار البلاغة، وأهمل الفلسفة. والفكرة ببساطة أن العربَ، في ثقافتهم الأدبية، يميلون إلى العفوية في التعبير، والجزالة في الأسلوب، والاختصار في التأليف. وهذه الخصائص جعلتهم بعيدين، نوعاً من البعد، عن التدبّر الفكري العميق، وكان الجاحظ قد فطن إلى هذه الحقيقة، وصادر الغذامي عليها. الفلسفة بوصفها تدبراً فكرياً عميقاً قد تجافي الطابعَ العفوي للإبداع الشعري. ومن ثم لم يؤسس عليها النقادُ العرب مبادئَ النقد. وبدلاً من بناء المذاهب النقدية على التدبر الفكري (أو النظري) للواقع الذي يعبر عنه النص، اتجهت بوصلة النقد صوبَ البلاغة. والبلاغة في خطاب الغذامي الثقافي تكاد أن تكون مرادفاً للجمال (الفني).
ما المشكلة التي يراها الغذامي في سيطرة البعد البلاغي على النقد الأدبي؟ يمكن القول إنّ شروط الجمال، التي توفرها البلاغة، تعمل على حجبِ المضمون الأدبي عن عين المتلقي. فإذا عرفنا أن البلاغة، وجماليات النص، في النقد العربي تتصل بـ»الشكل» وليس بـ»المضمون»، لأدركنا أن النص الأدبي سيمرّ بلا تدبر نقدي للمضمون، أي للأفكار التي ينطوي عليها النص. الشكل الأدبي هو الطريقة التي يعبر بها الأديب عن أفكاره، وتتمثل في الألفاظ والعبارات وما يلزم عن التركيب اللغوي من استعارات ومجازات. ومتى ما كان الشكل الأدبي جميلاً كان النص جميلاً. وأما ما عدا ذلك فليس سوى فُرَص ومناسبات للتعبير الأدبي. وانطلاقاً من هذه الأيديولوجيا الأدبية، إذا جاز التعبير، تمّ تجاهل الأفكار التي يحملها النص الأدبي، ولاسيما الشعر. وهذه الأفكار أو المضامين تعبر عن النسق الثقافي، أي تعبر عن الطريقة التي تفكر بها الثقافة العربية وليس عن الطريقة التي يفكر بها الشاعر. فالشاعر ليس سوى «ترس» في عجلة ضخمة اسمها «الثقافة». وهذه الثقافة تعيد إنتاج نفسها عبر مختلف أنماط التعبير الأدبي، وأهمها الشعر، ثم الأمثال والحكايات الشعبية.
النسق الثقافي هو رؤية-حياة (Lebenswelt) لاواعية أو مضمرة. وهي لا تتمظهر بذاتها، بل عبر أشكال التعبير المألوفة. والنسق، كمفهوم العقل المطلق عند هيجل مثلاً، غير محسوس، وذو طابع كليّ، ولكنه يتجلّى في ما هو محسوس وجزئي. والنسق الثقافي المضمر يتعلق بمفاهيم سكّها الغذامي، وهي ذاتها كلية وغير محسوسة. فهناك ما يسميه بـ»الجملة الثقافية». وهي ضرب من الفكرة الكلية التي تعبّر عن موقف أو اعتقاد معين، وتتمظهر في الجمل العادية (النحوية) بوصفها تشكيلات لغوية جزئية ومحسوسة. على سبيل المثال، لدينا جمل نحوية كثيرة متنوعة ولكنها تعبر عن جملة ثقافية واحدة: «مع الخيل يا شقرا»، «جنة بدون ناس ما تنداس» و»ما أنا إلا من غزية إن غوت .. غويت وإن ترشد غزية أرشد»... إلخ. هي ببساطة تنويعات فردية لجملة ثقافية واحدة لها دلالة تحث على التقليد والاتباع وترك التفرد والإبداع. الجملة الثقافية مضمرة وعصية على الإدراك إلا لمن تبحر في النقد الفكري العميق الذي يتجاوز الشروط البلاغية لإنتاج العبارة. هذه هي مهمة النقد الثقافي عند الغذامي: ليس أن نهجر النقد الأدبي وإنما أن نجعله خطوة ضمن مسلك نقدي واسع. فبعد الكشف عن جماليات العبارة، لننتقل إلى مضمونها. وهذا المضمون ذو بعدين: بعد واعٍ وهو الفكرة التي يريد المؤلف أن يوصِلها، وبعد غير واعٍ وهو الفكرة التي تعبر عنها الثقافة نفسها بدون شعور من المؤلف. ومن هنا يطرح الغذ امي مفهوم «المؤلف المزدوج»: المؤلف بوصفه الشاعر، والمؤلف بوصفه الثقافة التي تستعمل الشاعرَ دونما وعي منه لإعادة إنتاج نفسها.
لنسأل مرة أخرى: ما المشكلة في أن تعيد الثقافة إنتاج نفسها عبر الشعراء؟ في المجمل ليس هناك مشكلة. لكن تجاهل البعد الفلسفي للنقد الأدبي جعلنا غير قادرين على إدراك «أمراض الثقافة». فليس كل ما يردنا من الموروثات الثقافية محموداً؛ فهناك اعتقادات سلبية كثيرة مثل العنصرية، والتفاخر الأجوف، واحتقار المرأة والطفل، ومعاداة الآخر، وغيرها مما ورثناها بفضل الأدب والشعر. فالشعر بسبب جماليته وسهولة حفظه صار حاضناً لتلك الأمراض الثقافية، ولو أن النقد العربي لم يهمل البعد الفكري فلربما انتبه إلى تلك الأمراض وقضى عليها أو أعاق استمراريتها. أمّا وأن النقدَ قد تأسس فقط على البلاغة فإنه ترك تلك الأمراض تمر وتكرر نفسها في كل عصر حتى صارت كالمسلمات.
خلاصة الأمر هي أن النقد الثقافي يقدم لنا العدة المفهومية والسبل المنهجية الكفيلة بكشف أمراض الثقافة الموروثة، وأنه لا يمكن أن يتغاضى عنها تحت ذريعة الجمال أو ثنائية الشكل والمضمون أو الفن للفن. لكن مما يجدر لفت النظر أليه أن الغذامي لا يطبق مبادئ الأخلاق على الفن، كما فعل أفلاطون وأتباعه مثل تولستوي. فهو لم يجعل الفن وسيلة لتهذيب الأخلاق وتربية النشء، بل فقط حرص على تنمية الحس النقدي لدى متلقي الفن لكي يكون واعياً بالعيوب النسقية التي تمر عبر شروط البلاغة: كن واعياً بها لكيلا تقع ضحية لها. ويمكن القول إن الغذامي يراهن على ما يمكن تسميته بـ»أخلاق النص»؛ فالنص الأدبي ليس مجردَ شكلٍ فارغ أو لعباً حراً بالصور والمجازات، إنما هو – عند التحليل الأخير- تعبيرٌ أصيل عن الخبرة الوجودية للإنسان، وكل فنّ لا يعمق من رؤانا الوجودية فهو سطحي وزائل ولا قيمة له.
** **
- شايع الوقيان