د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
- لا يجيءُ هذا المقال تهنئةً بجائزة؛ فهي التي تُهنأُ به؛ لا ادعاءً أو تكرارًا لعباراتٍ منمّطةٍ؛ فستون عامًا في عملٍ صحفي دائبٍ تستحقُ كلَّ الجوائز، وكلَّ الاحتفاءات، غير أن ندوة معرض الكتاب في الرياض 2022م ( مساء الخميس 6/10/2022م) أثارتْ بعض الذكريات التي تُفصح عن فروسية أبي بشار ونبله واستحقاقه ليكون رئيسَ التحرير الأول والأخير، ولأن قاعدة الدهماء: ( لا يمدح السوق إلا من ربح فيها) فإن صاحبكم ناءٍ عن العمل في الجزيرة، بل لم يغشَ مقرها منذ الثاني والعشرين من شهر أبريل -2022م حين كتب آخرَ «إمضاءٍ» له بعنوان: «أستودعكم الله» في العدد 721 من المجلة الثقافية التي تغير اسمها بعده إلى «صحيفة الجزيرة الثقافية» وتبدّل ترقيمُها كذلك، ولعل ملفات الشؤون الإدارية والمالية تُفصح عن حقوقٍ ماليةٍ لم يستلمْها صاحبكم بعد، لا عن شهرٍ أو شهرين أو ثلاثة بل عن عامٍ وعامين وثلاثة، وقد قال قبلنا من أُوتيَ حكمةً: إن معظم الناس يصدقون من يقدح والقلة يُصدقون من يمدح، ولم يتخطَّ القولُ منطقَ الأشياء؛ فمقاييسُ الناس متفاوتة، وظنونُهم انعكاسُ نفوسِهم، ويذكرُ أنه أجّل الكتابة عن أستاذه حتى قرر الخروج من الجزيرة فكتب ورقته عن «رئيس التحرير الأخير»، وهي منشورة في كتابه: فوق الصورة ودون التصور، والمعنى - بعد هذا كله - أن هذه الكلمات لوجه الحقِّ والحقيقةِ ولا هدف غيرُهما.
(2)
- جاء صاحبكم إلى عالم الصحافة بعد مغادرة أبي بشار موقعه في رئاسة التحرير - الفترة الأولى - فلم يعرفه مباشرةً أو عن قرب، وحين افتتَحت الجزيرةُ مقرَّها الجديد على طريق الملك فهد عُمل احتفالٌ ضخمٌ برعاية وحضور الملك (الأمير سلمان وقتها) وكبار الكبار، وأوكل إلى صاحبكم تقديمُ الحفل وإدارةُ محتواه بإشراف رمزنا الراحل الدكتور عبدالرحمن الشبيلي رحمه الله، وحينها كان الأستاذ المالك بعيدًا عن الجزيرة، وربما أَوحى بعضُهم أنه غير مرضيٍ عنه، ولاحظنا مقعدَه في آخر الصفوف، لكن صاحبكم تجاهل ما قيل وما يقال فلم يستأذنْ ولم يستشرْ، ولأن أبا بشار كان أحدَ المكرمين ضمن المؤسسين فقد قدّمه بهذه الكلمات:
(.. كان عضوًا في المؤسسة، ولم تمضِ بضعة أشهر على تسلمه مهامه رئيسًا للتحرير حتى تحمل مسؤولية تحويل الجزيرة إلى إصدار يومي، ثم لم يطل الزمن حتى عرض مشروعه الفريد في تقديم أول إصدارٍ مسائيٍ في المملكة، وفي هذا وذاك فقد عمل وأبدع وخرّج أجيالًا من العاملين المبدعين).
- دعاه لاستلام هدية المؤسسة التذكارية من راعي الحفل، وفي صباح اليوم التالي وصاحبُكم في مكتبه بمعهد الإدارة هاتفه الأستاذ حمد القاضي مبلغًا إياه شكرَ الأستاذ خالد وطلبَ نسخةٍ مما قاله، والمرجحُ أن أبا بشار لم يسمعْ به إلا في ذلك الحفل، كما أن صاحبكم لم يعرفه إلا من خلال عمله المتميز، وتسجيلُ الحفل المشهود موجودٌ في الـ «يوتيوب» في جزأين لمن شاء، ولا شكَّ أن هذا الاحتفال السابق لرئاسته الثانية بثلاثة أعوام قد قرَّبهما، وإن لم يتواصلا.
- لا ينسى في تأريخٍ سابقٍ لذلك أنه قد قابله مرةً في مواقف السيارات بإحدى جامعات ولاية فلوريدا الأميركية، ومن الطبيعيِّ أن الأستاذ لم يعرفه، لكنَّ صاحبكم لم يتقدمْ إليه بالسلام؛ فلم يكن ممن يسعون خلف النجوم أو يهتمون بالاقتراب منهم، وما يزال على موقفه حتى اليوم.
(3)
- كان صاحبكم عنده في مكتبه أولَ أيامِ رئاسته الثانية، ولا ثالث لهما، واستقبل الأستاذُ مكالمةً هاتفيةً لم يظهر فيها صوتُ الطرفِ الآخر، وإن عرفه؛ فقد كانت له زاويةٌ أسبوعية، ووعى من المحادثة أنها متصلةٌ بعدم إجازة زاوية المتصل ذلك الأسبوع، ورغبةِ الأستاذ خالد استبدالها، ووعى قوله بلهجة حازمة بعد نقاشٍ بينهما: لن أنشر مقالًا يُسيءُ إلى رجلٍ وقف معي حين غادرتُ الصحيفة، ووقف معي حين توفي ابني «فهد» رحمه الله، وظلت المنافسة بيننا أمس كما ستستمر اليوم في نطاق العملِ المِهنيِّ؛ فصعود «الرياض» صعودٌ للجزيرة، وكذا حين تتألقُ « الجزيرةُ» تتألق « الرياض، وحين أقفل السماعةَ لم يُعقّبْ عليها بل عاد مع صاحبكم لما كانا فيه من حديثٍ خاصٍ بالعمل، وبالمناسبة، ومع أن مكتبينا شبهُ متجاورين، فإن الأشهرَ تمر دون أن نلتقي؛ إذ منهج أبي بشار التفويض، لكنهما حين يلتقيان يطيلان الأحاديث، ومعظمُها استئناسٌ برؤى كلينا حول الساحة الثقافية والإعلامية والمجتمعية، كما اختصّه الأستاذُ بمراجعة معظم محاضراته وكثيرٍ من مؤلفاته.
- اتصل الأستاذُ بصاحبكم عبر الهاتف يومًا وقال: استمع إلى هذه الرسالة، ثم قرأَ عليه رسالةً غاضبةً من كاتبٍ معروفٍ، وكانت ملأى بالانتقادات السّوقية التي لا يقولها مراهقٌ عن خصمه المجايل له، وكان هذا الكاتب أحدَ كُتَّاب «الثقافية»، فلم يوجهه الأستاذُ إلى إيقافِه عن الكتابة، بل إن صاحبكم طلب من الأستاذ - بعد زمن - أن يُكرم الكاتبَ عينَه لمقدرته وظروفه - بتخصيص زاوية له في المحليات ورفع مكافأته؛ فوافق أبو بشار ولم يستعدْ حكاية الرسالة، وبقي ذلك الكاتب بعموده المعروف حتى قرر بنفسه التوقف، عفا الله عنا وعنه.
- وردت إلى الأستاذ ملاحظاتٌ حول كاتبٍ في الثقافية، وكانت ملاحظاتٍ ذاتَ دلالة تتجاوزُ محتوى ما ينشره، فلم يزدْ على أنْ أحاطه بها في مغلفٍ سري، ولم يلمْه مثلما لم يوجهْه، وترك الأمرَ إليه.
- استشاره حول كاتبٍ شاء الأستاذُ إيقافَه لعدمِ مناسبة مقالاته لمساحة الرأي؛ فأشار عليه بعكس ما شاء؛ فمعاييرُ الرضا غيرُ مقنّنة، وما لا يُعجبُ فئامًا يعجبُ غيرَهم، فاستحسن رأيه وما يزال يكتبُ بعد مرور أعوامٍ على الأمر، علمًا أن صفحات الرأي لم تكن يومًا في اختصاصات صاحبكم.
(4)
- جاء صاحبكم إلى عالم الصحافة في عهد الأستاذ الكريم محمد بن ناصر بن عباس رعاه الله، وكان ذا الفضل في إلزامه بالكتابة المقالية في هوامش صحفية ثم في مساحة الرأي، وكذا الإشراف على التحرير الثقافي، ولم يضعْ أبو بشار هذا في حسابه بل أكَّده في أكثر من حديث، ومع أننا اعتدنا في محاولة القادم الجديد الاستعانة بمن يراهم مناسبين لمرحلته، وربما بمن هم ذوو ولاءٍ لشخصه، فإنه مكَّنه أكثر، ورفع مكافأته ، وعينه مديرًا للتحرير، ووضع اسمه في ترويسة الصحيفة الرسمية، وامتدحه الأستاذ في اجتماع قيادات التحرير بلغةٍ مختلفةٍ حين طُرح موضوع تسرب الكفاءات من الصحف، ولم يستدعِ مترجمًا عند اللقاء بوفدٍ أجنبيٍ رفيع بل أوكل إليه المهمة، وكتب صاحبكم - أكثر من مرة - ممتدحًا بعضَ أسلاف الأستاذ ممن طاله منهم بعضُ الانتقاص وقت غيابه خمسة عشر عامًا عن المؤسسة فنُشرت مثلما كتبها، وكذا الكبير يعلم أن من يفي لغيرك سيفي لك، أما من يدُورون مع منافعهم فسرعان ما ينفضُّون.
- لا شكَّ أن حساسية مرحلتي الإقصاء والإعادة قد اقتضت - في التعامل بين مكونات الإدارات القديمة والإدارة العائدة - شيئًا من عدم الارتياح، لكن الأستاذ المالك تجاوز كل هذا بحكمته وتسامحه وصفاء قلبه الذي قال عنه في أمسية المعرض: إنه يضع رأسه ليلًا فينام هانئًا خاليًا من شوائب النفوس وإيماءات بعض الدروس.
- ليس المالك من مدَّعي البطولات مع أنه بطل، وحين قيل في الأمسية إنه أُخرج من العمل بسبب قصيدة لم يزعمْ أنه كان جريئًا بنشرها، بل أكَّد أنه لم يرَ فيها ما يخالفُ المعايير الرقابية، وفي موقعه نجزم أن كُثرًا سيضعونها وسامًا لهم ويتغنّون بها، وفوق هذا عزف عن الحديث عنها حتى وقت متأخر، وربما سبقه صاحبكم في الإشارة إليها ببحثه المعنون: (القصيبي والجزيرة من الرسالة إلى الاستثناء) - الذي قدّمه في الندوة العلمية المشتركة بين كرسي القصيبي في جامعة اليمامة وكرسي الأدب السعودي بجامعة الملك سعود - ديسمبر 2014م.
- أُشير إلى أنه فقد بخروجه امتيازاتٍ ماليةً فأكَّد غيرَ ذلك بتكليفه بتأسيس وإدارة الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع بمخصصاته ذاتها، عدا اكتسابه من الأسهم والزراعة ونحوهما، ولو كان غيرَه لعزف على أنغام المظلومية المُتاحة والمباحة.
(5)
- وبعد؛ فالحديث حول عميد الصحافة السعودية لا ينتهي، وإنما هي حكاياتٌ أثارتها ندوة المعرض التي عمرت بالحضور، وتجللت بالحبور، ورأينا فيها محبي أبي بشار يتسابقون على رواية مواقفهم منه ومعه، رغم أن الزمن لا يُسعفُ بالالتفات إلى واقع الصحافة فهو بائس، ولا يأذنُ بالركض إليها وهي في النزع الأخير، لكنه خالد المالك؛ فكما كان قائدًا وقت التأسيس، وواعيًا وقت المَأسسة، ومنذرًا وقت التحول فلم يُنزل رايته وقتَ التراجع، ولو أنصف نفسه لحزم حقائبه واستمتع بحياته متفرغًا لكتابة مذكراته، ومستمتعًا مع ذكرياته، ومتأملًا من منزله الباريسيِّ كيف تضيءُ الشمس في عيون المساء، وكيف يجلو الهمسُ أخيلة العابرين فيتخلّقُ النصُّ دون شاعر، ويعلو الشخص من غير منابر.
- الحياةُ محبة.