عبدالوهاب الفايز
كان دورها المعروف، منذ سنوات بعيدة، إنها شركات استشارات مالية وإدارية متخصصة يطلبها العملاء للبحث عن مشكلاتهم ثم اقتراح الحلول لها.
الآن يتبدل الوضع على شركات الاستشارات العالمية لتكون هي المستهدف بالبحث والتنقيب عن مشكلاتها وفسادها في أراضيها الواسعة، فهذه الشركات (كَبَّرت الرقعة واللقمة) فغصَّت بها، وهذه بداية النهاية لقطاع خربت أغلب مخرجاته الاستشاريه عمل الشركات والحكومات منذ الخمسينيات، فالفضائح تتلاحق.
هذه الفضائح يوسع نطاق الحديث عنها الكتاب الجديد (عندما تأتي ماكينزي إلى المدينة) للصحفيين المتخصصين بالتحقيقات الاستقصائية في جريدة نيويورك تايمز الأمريكية والت بوجدانيتش ومايكل فورسيث، والكتاب تضمن (سردا مروعا لعقود من عمليات الاستغلال غير الشريفة في ماكينزي، أكبر اسم في الأعمال التجارية)، كما تقول الايكونوميست.
وسائل الإعلام العالمية بالذات مؤسسات الصحافة والتلفزيون الأمريكية تتسابق الآن للفوز بنصيبها من كشف المستور في عالم الاستشارات (إذا طاح الجمل كثرت سكاكينه)، وهذه الهجمة الإعلامية هي التي تجعل بعض الحكومات الغربية وحتى بعض أعضاء البرلمانات يبادرون إلى المساهمة في الحملة المتصاعدة تحسبًا لانكشاف العلاقات الخفية مع هذا القطاع المتهم.
المتابعون لهذه التطورات يتذكرون المسلسل الكوميدي الدرامي بيت الأكاذيب، The house of lies. على سبيل المثال، في فرنسا تعرض الرئيس إيمانويل ماكرون للهجوم بعد الانكشاف هذا العام أن الحكومة أنفقت مليار دولار على شركات استشارية لها صلات بالدولة.
تذكر مجلة الايكونوميست في عددها الأخير أن إجمالي إيرادات الشركات الثلاث الكبرى، (ماكنزي وبوسطن كونسلتن جروب، وشركة بين) تضاعفت ثلاث مرات منذ عام 2010، إلى نحو 30 مليار دولار؛ ويعمل في الثلاثي الآن نحو 70.000 شخص. وهذا يعني إيرادات لكل موظف تزيد عن 400.000 دولار، وهذا يعطي المؤشر على دخل القيادات في هذه الشركات. وبالمقارنة، فإن الرقم بالنسبة لشركات المحاسبة الأربع الكبرى - Deloitte وpwc وey وkpmg - ضئيل نسبيا قدره 140.000 دولار.
والقريبون من عمل الشركات الاستشارية العالمية العاملة في الخليج العربي يجزمون أنها حققت المستهدف في الميزانية إلى خمسة عشر عاما قادمة، أي أنها تلعب في الوقت الضائع.. والعاملون فيها يرفعون القدح المعلى ويحتفون ويعلنون الانتصار على رؤوس الملا.
تذكر الايكونوميست في استعراضها للكتاب أن القضايا التي يغطيها (تضمنت مساعدة مصنعي المواد الأفيونية على بيع منتجاتهم للمدمنين، وتشجيع شركات التأمين على خفض مدفوعات المطالبات لسائقي السيارات والاستفادة من العقود غير المشروعة مع الشركات المملوكة للدولة في جنوب إفريقيا، وهي تهمة أعلن المدعون العامون في البلاد عن إجراءات جنائية بشأنها في 30 سبتمبر. تقول ماكينزي إن الكتاب «يشوه بشكل أساسي شركتنا وعملنا» وأن «التهم الموجهة ضد مكتبنا في جنوب إفريقيا لا أساس لها من الصحة وسندافع عنها». طبعا هذا الكتاب لم يكن الأول ولن يكون الأخير، فالشركات عالمها الغامض سوف يظل يستجذب الاهتمام الإعلامي. ولكن هذا لن يثني الشركات عن الاستمرار في اقتناص الفرص الاستشارية عاليه الأرباح.
الشركات الاستشارية طورت حساسية بارعة في اقتناص الفرص التجارية، وفي الاستعداد للفضائح. لتنمية أعمالها، تراقب تطور المشكلات ثم تجهز الحلول التي تعرف أنها ضرورية لتسكين المشكلات والآلام السياسية للقيادات الحزبية أو الحكومية. والشركات الثلاث تستفيد أيضا من التغييرات الهيكلية في الاقتصاد ومن اهتمام السياسيين في القضايا البيئية والاجتماعية والحوكمة، وغيرها من القضايا الساخنة.
ولكن ربما هذا النعيم لن يستمر، فالمصاعب على الشركات قادمة، فالحكومات بدأت تدرك عدم كفاءة مخرجاتها، وأيضا سوف تواجه عزوف المواهب من المهنيين المحترفين عن العمل لديها بسبب بيئة العمل الصعبة كثيرة الضغوط وغير منضبطة أخلاقيًا، فهؤلاء أصبحوا يعملون من بيوتهم بعقود خاصة مع العملاء حيث يقدمون الخدمات الاستشارية التي تناسب العملاء وتحل مشكلاتهم بتكاليف أقل بكثير من العقود مع الشركات، وهذا ما تفعله حكومات وشركات كبرى لديها الوعي بطبيعة الأعمال الاستشارية.
منذ سنوات في مقابلة مع ارك شميدت الرئيس التنفيذي لشركة جوجل ذكر أنه لا يتعامل مع الشركات الكبرى للاستشارات في السنوات الأولى لبناء الشركة العملاقة، فهو يفضل استقطاب الخبرات التي عملت في الشركات الاستشارية للعمل، فهؤلاء لديهم المعرفة والفهم بتطبيقات الآلية والمنهجية التي تعمل بها الشركات الاستشارية، وهذا يتيح لهم تطوير المخرجات الضرورية التي تحتاجها الشركة لأنهم متعايشين ومدركين لامكانات تنفيذ المشاريع والإستراتيجيات.
الشركات الاستشارية أصبحت تركز على استقطاب حديثي التخرج من جامعات معينة ذات الأسماء البراقة، ثم الدفع بهم لبيئة العمل غير مسلحين بالخبرة والتجربة، وغالبًا هؤلاء يتركون العمل عند سن الثلاثين، وينتهي بعضهم محطمًا نفسيًا وأخلاقيًا مما رآه وكان مجبرا على التعايش معه، ومنهم من نشر تجربته في كتب ومقالات كشفوا فيها عنف بيئة العمل. الشركات تعصرهم كالبرتقالة ثم ترميهم.
هذا التراجع في مستوى الموارد البشرية هو مصدر تهديد حقيقي للقطاع لأن هامش ربحه الكبير كان يأتي من استقطاب الخبرات التي يحتاجها قطاع الخدمات. كان هؤلاء أقرب إلى العمالة الرخيصة مقابل الدخل الذي يحصل عليه كبار القياديين والتنفيذيين.
وعموما سوف يظل التفاؤل محدودًا لانضباط هذا القطاع، وسوف يظل على غيه القديم لأن الطلب لن يتراجع خوفاً من الفضائح الإعلامية. خدمات الشركات الكبرى مطلوبة لاعتبارات الصراعات السياسية داخل الشركات الكبرى.. وحتى داخل الحكومات. أغلب عمل الشركات يستخدم ورقه لحسم الصراع بين الأطراف داخل مجالس الإدارات، أو لتفكيك الشركات وتقليص خدمات الحكومات، أو لتمرير مشاريع معينة لأهداف سياسية.. هنا سوف تجد الأحلام الوردية في العروض المثيرة.
تقول الايكونوميست: (هناك وجهة نظر واسعة الانتشار مفادها أن الاستشاريين طفيليات وأولئك الذين يوظفونهم حمقى).