أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لم تبلغ الفلسفة من النضج, ودقة التحليل, وشموله ما بلغته في العصر الحديث؛ ومع هذا: كانت (نظرية المعرفة والعلم) مشكلة لم تحلها الفلسفة الحديثة على الرّغم من نضجها, ودقتها وشمولها؛ بل كانت من أعوص مشاكل الفلسفة, وكانت مباحثها من أخصب مباحث الفلسفة الحديثة.. وحكمي بأنّ نظرية المعرفة مشكلة: يعني أنّ الفلسفة لم تحلها حلاً يتفق عليه جمهرة المفكرين، وإنما مذهبتها إلى مذاهب كبرى يقتسمها المفكرون، وكل مذهب يدلي بعظمة في التفكير, وغطرسة في البرهان, وهذا ما جعلها مذاهب كبرى متكافئة.. ووجه الخطأ في كل مذهب ضئيل بالنسبة إلى ما في كل مذهب من جوانب الحق والصواب يعني أنّ كل المذاهب حقائق تعارضت في ذهن المفكرين؛ فأخذت كل فئة بمذهب ترجيحاً.. ويمكن الأخذ بهذه المذاهب جميعاً بشرطين: الأوّل الانتباه للفروق الدقيقة الصحيحة التي تمايز بينها.. والثاني الانتباه لمثارات الغلط في كل مذهب, ليتمحض للحق.. وتنقسم المذاهب إلى مذهبين من جهة الشيء المعروف، كما تنقسم إلى مذاهب من جهة الوسيلة التي حصلت بها المعرفة؛ فأما المذهبان في الشيء المعروف فهما: مذهب مادي يقول: (إنّ ما عرفناه انعكاس للواقع، وصورة له.. ومذهب مثالي يقول: (إنّ ما عرفناه لا يعني شيئاً من الواقع؛ وإنما هو وجود في وجداننا: أي في النفس العارفة الجوّانيّة، ويقول: ما في الخارج: إما مشكوك فيه, وإما زائف, وإما مستحيل, ويدخل في هذا جميع مذاهب السفسطة.. ومنهم من يقرب من المادية؛ فيقول: (نعرف ظواهر الأشياء لا جواهرها.. والمذهب المادي يسمّى موضوعياً, والمذهب المثالي يسمى ذاتياً [أي جوّانيّاً في النفس].
قال أبو عبدالرحمن: والمذاهب في وسيلة المعرفة على هذا النحو: مذهب حسيّ يقول: (لا معرفة إلا ما جاء بواسطة الحواس).. ومذهب عقليّ يقول: (لا معرفة إلا ما جاء بواسطة العقل)؛ وهؤلاء يقولون: (يمكن أن يحصّل العقل معارف بغير واسطة الحس).. مذهب صوفيّ, أو حدسيّ [للحدس معنى آخر عند العقليّين, وهو رؤية القلب المباشر] يقول: (لا معرفة إلا ما جاء بواسطة الروح)؛ وهؤلاء يريدون بالنفي نفي الشكل الأعلى للمعرفة؛ وهو معرفة جواهر الأشياء؛ وهذه المعرفة الصوفية العليا لا تكون إلا لأشخاص قلة وفي حالة مستثناة, يحصل فيها الإلهام, أو الكشف أو الإشراقة, وأهل هذا المذهب يسمون بذوي المعرفة النزيهة.. مذهب ذرائعي يقول: (المعرفة ما أرادته الذات [أي: النفس] الحرة: أي عقيدة القلب.
قال أبو عبدالرحمن: هذه المذاهب في المعرفة: مرتبطة بمذاهب أصحابها في الوجود: أي الموجودات أسبق: المادة، أو الروح، أو العقل.. وما بين هذه المذاهب مذاهب تتميز بمصطلحات جزئية: من إرتيبابية, وتعرف الجزئية بـ (الاكليكتية) أي الانتقائية, أو التلفيقية [أشار إلى هوية هذه المذاهب الانتقائية مؤلفو كتاب المادية الديالكتيكية].. ومصدر المعرفة عند المليّين ما جاء بكتبهم المقدسة؛ فمصدر المعرفة عند اليهود التوراة, وعند المسيحيين الانجيل, وعند الإمامية قول الإمام المعصوم.. ومصدر المعرف عند الصوفية تجليات الروح, ومصدر المعرفة عند الذرائعيين عقيدة القلب وإرادته, ومصدر المعرفة عند الفلاسفة العقل فقط, أو الحس, أو هما معاً.. والمصدر الصحيح لجميع المعرفة: المحسوس؛ وهو المصدر الصحيح لجميع أنواع المعرفة البشرية؛ فالتفاحة مصدر معرفتي بطعمها.. وجملة ممّا أدركته بحسي هو مصدر معرفتي بأنّ الجزء أقلّ من الكل، ومعرفتي بغير المحسوس مصدرها المحسوس؛ فالتفاحة التي ذقتها مصدر معرفتي بكلّ حلاوة مشابهة لم أذقها.. ولا مصدر للمعرفة مطلقاً غير الموجود المحسوس: إمّا الموجود المحسوس خارج الذات، وإمّا الموجود داخل الذات.. وما أدركته بحسّي إمّا: بالحس الظاهر؛ وهو إدراك الحواسّ الخمس، وإمّا بالحس الباطن؛ وهو بانفعالات القلب.
قال أبو عبدالرحمن: وللعقل ملكات ذات وظائف هي: ملكة تسجل صورة المعروف وتحتفظ به الذاكرة، وملكة تختبر المعرفة وتصححها؛ وهي ملكة الفهم والتمييز والحكم، وملكة الخيال؛ وهي التي تؤلف بين صور المحسوسات, وتخترع صوراً غير موجودة بهذا التركيب، أو لم يشاهدها المتخيّل بهذا التركيب ولكن هذا المتخيّل المركّب لا يقوم إلا بجزئيات محسوسة.. والملكة الثانية ملكة التأمل والتفكير؛ وبها يحصل التجريد من المحسوس والتعميم؛ فنفهم غير المحسوس بالقياس أو باللزوم العقلي.. والملكة الثالثة ملكة اللغة؛ وبها يكون التعبير عن المفهومات؛ وقد يكون وسيلة التفاهم بالرمز والإشارة.. إلا أنّ اللغة هي وسيلة التفاهم لجمهرة الناس؛ ومعرفة كل إنسان مضمنة في لغته؛ ومعرفة البشر هي معاني الألفاظ التي يتكلمون بها.. والسوفسطائي محجوج من معاني لغته؛ لأنه يقول: (لا نعرف شيئاً) فعبّر بجملة تعني شيئاً عنده وجملة: (لا أعرف شيئاً)= أعرف أني لا اعرف.. والسوفسطائي لن ينصر مذهبه إلا بكلام يتضمن معارفه.. ومن جهل معنى الكلمة في لغة قومه بحث عن معناها عند قومه؛ فيجد المعنى شيئاً يشترك معهم في فهمه كما اشترك معهم في النطق بتلك الكلمة؛ ولقد ولدنا وبقينا لا نحسن الكلام؛ بل ندرك الأشياء؛ وعند بداية النطق نلتمس المصطلح اللغويّ لكل شيء عرفناه؛ ولهذا لا يحدّث الإنسان بمعارفه إلا بالألفاظ التي يشاركه غيره في فهم معانيها؛ إذن نحن نعرف, وما نعرفه ليس سوى معاني الألفاظ التي نتفاهم بها.. وربما قيل: (هل للعنقاء معنى؟).. والجواب نعم لها معنى يعرفه العرب بالوصف وإن كانت العنقاء غير موجودة: فصفاتها مركّبة من موجود محسوس؛ لأنّ معنى العنقاء لابد أن يكون مفهوماً، وإلا كانت كلمة عنقاء كلمة بلا معنى.
قال أبو عبدالرحمن: ومصادر للمعرفة مجازية؛ فالكتب المقدسة مصادر للأديان؛ وهي مصادر للمعرفة البشرية تجوّزاً؛ لأنّ التصديق بهذه الكتب جاء من أدلة عقلية مصدرها المحسوس.. والروح مصدر لنوع من أنواع المعرفة؛ فلا تكون مصدراً للمعرفة عامة إلا تجوّزاً.. ومعرفة الروح مصدرها المحسوس؛ وتحصل بوسائل نقل المعرفة من حس وعقل ولغة؛ فرؤيا المنام محسوسة نحصلها بالحس والعقل واللغة.. والقلب مصدر للمعرفة تجوّزاً؛ لأنّ ما اعتقدناه شيء مفهوم بالحس والعقل, ويعبر عنه باللغة.. والحسّ مصدر للمعرفة تجوّزاً؛ لأنه أداة نقل المعرفة.. والعقل مصدر للمعرفة تجوّزاً؛ لعدد من الاعتبارات: أولها أنّ العقل وسيلة نقل المعرفة.. وثانيها أنّ عمل العقل في تحصيل المعرفة أغلب من غيره لناحيتين: أنّ العقل يشارك الحس في تحصيل المعرفة ثم يستقل عنه في تصحيحها واختبارها وتسجيلها وحفظها واستذكارها, ومعاني الألفاظ جاءت وفقاً لما يختزنه من صور.. ولأنّ أغلب معارفنا مأخوذة من الحالات التي استقل فيها العقل بعمله, ولهذا كان العقل مصدر المعرفة البرهانية.. وثالث اعتبار لكون العقل مصدراً للمعرفة: أنّ العقل مجمع المعارف التي أخذها بالتدريج من الإحساسات الجزئية.. ورابعها أنّ ما في العقل صورة للموجود؛ فإذا كان الأصل مصدراً فالصورة مصدر تجوّزاً.. وخامسها أنّ العقل مصدر تأكيد المعرفة أو رفضها.
قال أبو عبدالرحمن: وتتبيّن حدود المعرفة البشرية بقراءة مضمّن في كلّ ما ذكرته آنفاً؛ فقولنا: (المحسوس مصدر المعرفة): لا يعني أننا لا نعرف غير المحسوس, ومعرفتنا المحسوس: إمّا شرعية, وإمّا عقلية؛ فأمّا المعرفة الشّرعية فقد مضى بيانها؛ وأما العقلية فإنّه منذ يبدأ الحس في نقل المعرفة: يبدأ العقل في تسجيلها وحفظها, ثم بعد ذلك يكون العقل المرجع في تصحيح هذه المعرفة واستذكارها, ويبدو دور العقل في العمليات الفكرية التي يجتلب بها المعرفة ويحفظها, وتتلخص هذه العلميات في التالي: الانتباه عند التقاط صور المحسوسات، والملاحظة؛ وثمرتها: تمييز كل صورة بهويتها, وتمييز العلاقات بين الصور, وتمييز وجوه الاختلاف بينها، ثمّ التذّكر؛ وهو استرجاع صور الأشياء وعلاقتها ومميزاتها في أي وقت، ثمّ التعميم؛ وهو تجريد الأحكام من المحسوسات وتعميمها على ما لم يحس، ثمّ التّخيّل والاقتراح والفرض، ثمّ التحليل؛ وهو رد الشيء إلى أبسط عناصره اعتماداً على مخزون الذاكرة من صور المحسوسات؛ وذلك هو الانتقال من العام إلى الخاص، ثمّ التركيب؛ وهو ردّ العناصر البسيطة إلى شكل كانت عليه في الواقع، ثمّ التأليف؛ وهو رد عنصر ما إلى شكل ما.
(له تابع)
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل)
-عفا الله عنّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-