رؤية - خالد الدوس:
اهتم عددٌ كبيرٌ من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء علم الاجتماع وميادينه، واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع البشري وظواهره، واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه. وقد أسهم كثير من المفكرين والمنظرين والعلماء في إثراء هذا الميدان العلمي الخصيب، وإشباع اتجاهاته السوسيولوجية. ومن أهم المنظرين والباحثين في علم الاجتماع العالم الأمريكي لويس كوزر (1913- 2003) من رواد النظرية الصراعية التي تعد كطليعة للفكر الماركسي، ومن جهة أخرى تعد بديلاً للنظرية البنيوية الوظيفية.
ولد هذا العالم في ألمانيا سنة 1913 وكان أبوه يعمل مصرفياً، في عائلة غنية ومزدهرة، ومرت حياة لويس بسلام وترف، ولكن بدأت المشاكل في سنة 1933، وهو التوقيت الذي وصل فيه النازيين إلى الحكم بقيادة النازي (هتلر) وبدأت المشاكل المعروفة بين الحكومة النازية وبين اليهود واضطهادهم في المجتمع الألماني في تلك الحقبة الماضية..
أكمل (لويس) تعليمه العام في موطنه الأصلي، وقد كان مهتماً بشكل كبير بالسياسة وكان يؤيّد النشاط السياسي للحركة اليسارية في ألمانيا، وفي هذا الوقت كان لويس على دراية تامة بالحياة السياسية التي تدور حوله في ألمانيا وفي العالم، وكونت هذه الدراية شخصية لويس بشكل كامل، السبب الذي أدى إلى جعله يفهم ما يدور بشكل كامل، وفي سن العشرين غادر لويس من ألمانيا متجهاً إلى باريس كانت سنواته الأولى في المنفي صعبة للغاية بالنسبة له، وخصوصاً أنه كان غير قادر على توفير ما يكفي لحياته من المال، وكان كل وقته تقريباً يقضيه في البحث عن ما يكفيه من المال من خلال توفير أي وسيلة من وسائل العيش، وقد قام لويس بالعمل في العديد من المهن خلال هذه الفترة، حتى يتمكن من توفير ما يكفيه للأكل والسكن وغيرها من الاحتياجات، حيث عمل كبائع متجول، وعمل في الأعمال اليدوية، وظل يحاول العثور على مجال عمل عقلي أفضل من هذه المهن المؤقتة التي يعمل بها، فعمل كسكرتير لأحد الكتاب السويسريين لبعض الوقت.
في سنة 1936، انتهت معاناة لويس عندما حصل على وظيفة دائمة، من بعدها عمل في مكتب تمثيلي فرنسي في شركة لها وساطة من أمريكا سعى لويس بعد الحصول على الوظيفة لحضور الفصول الدراسية في فرنسا في جامعة السوربون حتى يتمكن من الحصول على تعليم إضافي، حيث إنه بعد انتهائه من التعليم العام في ألمانيا لم يحصل على أي درجات علمية إضافية، ولقد اختار لويس أن يدرس الأدب المقارن، فبالإضافة إلى الألمانية التي تعد لغته الأم فهو يجيد الفرنسية والإنجليزية أيضاً، وهذا الأمر جعل هذا المجال سهل عليه.
خلال نشاطه العلمي، كان يتولى كتابة أطروحة حول مقارنة بين القصص القصصية الإنجليزية والفرنسية والألمانية لنفس الفترة الزمنية الموجود فيها في الحرب العالمية الثانية، كانت الحكومة الفرنسية تتخوف بشكل كبير من الجواسيس الألمان، ولهذا قامت باتخاذ سياسة صارمة على كل الألمان في فرنسا، وقامت بسجنهم وترحيلهم إلى منطقة في جنوب فرنسا، وهذا الأمر جعل لويس يفكر بشكل كبير في الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. بعد الهجرة حصل عام 1948 على الجنسية الأمريكية، ثم قرر مواصلة تعليمه في علم الاجتماع سرعان ما تلقى عرضاً ليصبح محاضراً في جامعة شيكاغو في كلية العلوم الاجتماعية فزاد تعلقه بعلم الاجتماع والتعرف أكثر من الأسس النظرية والمناهج العلمية وبالتالي جعله يتعمق بشكل كبير في دراسة علم الاجتماع وبعد عامين في شيكاغو عاد لمواصلة تعليمه العالي في جامعة كولومبيا ونال شهادة الدكتوراه سنة 1954، بعد أن تتلمذ على يد عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون ليخرج لنا كل النظريات والأبحاث المشهورة عنه في علم الاجتماع بعد أن كان اهتمامه الرئيسي يدور في فلك النظرية الاجتماعية، وفي عام 1956 نشر أول كتاب بعنوان: (وظائف الصراع الاجتماعي) ثم انتقل للعمل بجامعة ولاية نيويورك وعمل في صرحها الأكاديمي (15 سنة) حتى تقاعده وخلال الفترة من بداية الستينيات حتى السبعينيات كانت فترة ذهبية في الإنتاج العلمي والأبحاث المتميزة للعالم (لويس كوزر) حيث ألف كتاب بعنوان: (أعمال تدرس العلاقة بين الناس والمؤسسات)، وكتاب: (تكملة في دراسة الصراع الاجتماعي) عام 1967 وكتاب: (أساتذة الفكر السوسيولوجي) سنة 1971م، وكتاب: (أهل الأفكار) عام 1965 وكتاب: (البحث في الصراع الاجتماعي) 1967 وكتاب: (في تاريخ علم الاجتماع - جورج سميل) 1965 كما ترأس هذا العالم الفذ جمعية علم الاجتماع الشرقية (1964-1965) والجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع (1975-1976) وبعد تقاعده من العمل الأكاديمي عام 1987 انتقل مع عائلته للعيش في كامبريدج ماساتشوستس بعد أن طور الأحكام النظرية الرائدة والتي أصبحت المتطلبات الأساسية لتشكيل النظرية الصراعية، وغطى كثير من الظواهر المتغيرة والمتعلقة بأسباب الصراع وشدة الصراع ووظائف الصراع وعنف الصراع.. وما زال منظوره عن الصراع يمثل أحد الاتجاهات الأكثر شمولا في الأدبيات المعاصرة في هذا الميدان الحيوي.
ولذلك يعتبر (لويس كوزر) من علماء الاجتماع المرموقين، ورواد النظرية الصراعية الذين وجدوا في علم الاجتماع ميداناً خصباً ومجالاً ثريا ليسهم بأفكاره المتعددة في وضع أسس علمية في هذا الميدان الحيوي، وممن امتزجت كتاباتهم بخبرتهم المهنية كأستاذ لعلم الاجتماع في العديد من الجامعات الأوروبية والأمريكية.
توفي العالم الأمريكي الألماني الأصل (لويس كوزر) في 8 يوليو 2003 وكان يبلغ من العمر 90 سنة تاركاً تاريخاً حافلاً بالمنجزات العلمية والبصمات السوسيولوجية في تراث علم الاجتماع الصراعي بعد أن صاغ مفاهيم نظرية أساسية وعالجها بصورة نقدية واقعية في هذا الميدان الخصيب لتصبح مرجعاً هاماً لكثير من علماء الاجتماع المعاصرين والباحثين وما زالت تدرس في أعرق الجامعات العالمية.