لن أقفَ طويلًا عند جمال السرد، والقيمة الأدبيّة، والبذخ الكتابيّ الذي يحمله مُؤلَّف «سقف مستعار»، ذلك أنّ لهذا الكتاب بُعدٌ إبداعيٌ يتجاوز كلّ ذلك، رغم أهمّيّته. ومن باب الإنصاف أقول، إنّ المؤلِّف ما فتئ يُبهِرُني في كلّ مرّة بإضاءته المدهشة على مفاصلَ قد لا تستوقف غيرَه، وبقدرته على تطويع بعض المشاهد الطبيعيّة وتوظيفها داخل الحكي السرديّ، كذلك تشيئته للإنسان وتجميده وتجريده من خواصّه الإنسانيّة، وأنسنته للأشياء باستنطاقها وإكسابها المشاعر والأحاسيس، وتوظيفه كلّ ذلك بطريقة ذكيّة ومذهلة داخل المشاهد المتنوّعة، منطلقًا من خلالها لبثّ الأفكار التي يريدها بأسلوب أدبيّ أخّاذ، دون الإخلال في معظم نصوصه بمقوّمات القصّة الإبداعيّة، رغم نهج ابتداعيّ اختطّه لمصنّفه قد لا يتلاءم مع بعض هذه الاشتراطات؛ فعلَ ذلك دون إغفال أهمّيّة اللّغة الشاعريّة، والمحسّنات البديعيّة، والمفردات الجزْلة الغنيّة التي أطلّت علينا بالقدر المناسب.
يمكننا القول هنا إنّ النصوص التي تضيف إلى مخزوننا اللغويّ والأسلوبيّ هيّ قلَة نادرة، وهذا الكتاب - يقينًا - يندرج ضمنها. لقد استطاع الكاتب بحِرَفيّة عالية خلقَ أجواء من الفنتازيا الجميلة في معظم نصوصه، بسلاسة تستهوي النفوس، وبمباشرة بسيطة يمكن للجميع قراءتها وفهمها، وبعمق ثريّ يستبطنها ويمنحها القيمة الإبداعيّة التي تستحقّها. لعلّ ذلك ما تحتاجه القصّة من كاتبها إن أراد تخليدها، وديمومة التحدُّث عنها، والتفكُّر في معانيها، وهنا يكمن التفرُّد الحقيقيّ؛ فالكاتب أخذنا بكلّ اقتدار إلى مجالات غير مطروقة، تناولها بأسلوب أصيل ربّما لم يُستخدم من قبل.
إنّ حديثنا عن عتبة العنوان «سقف مستعار»، وهو عنوان النصّ الأوّل الذي اتّخذه الكاتب ـ كما جرت العادة ـ عنوانًا لكامل الكتاب، ينبغي ألّا يكون بهذا الوصف البسيط، فهو - في ظنّي - يحمل تيمة معيّنة تمثّل كلّ النصوص وتوثقُ رباطَها، وتُدخلها جميعًا في فلك العنوان مشترطةً علينا النظر إليها من خِلالِه، بدءًا من النصّ الأوّل «سقف مستعار» الذي استُخدم - في ما يبدو - كأنموذجٍ يوصل الفكرة التي يريدها الكاتب، ويُعَدّ امتدادًا لباقي النصوص التي تتضمّن الرمزيّة الإيجابيّة الجميلة بسرّياليّتها الإبداعيّة، وإذابتها للحدود، وتحليقها في فضاءات تخيّليّة تتجاوز السرد المدوَّن، وإطلاق الفكر بمنهجيّة محفِّزة تأخذ بيدك كقارئ وتوصلك إلى فهم النصّ بطريقتك، دون إجبار؛ فشواهد المعاني التي يُفترض زراعتها في ثنايا النصّ لم تكن حاضرة بتلك القوّة، أو لنقُل، بالوضوح المطلوب، ما يجعل المعاني التي تتفجّر بها النصوص، تبتعد ربّما كثيرًا عن بعضها، وتطيش في كلّ الاتّجاهات، بل إنّ النصّ الأوّل ـ كشاهد على «تقليعة» الكاتب المتعمّدة ـ يطلق أيدي القرّاء لقراءة النصّ والإحاطة به من زوايا متعدّدة، دون أن يملكَ أحدهم الحقيقة المطلقة، فالنصّ مفتوح على مصراعيه أمام كلّ القراءات والاستنتاجات.
لعلّ ما يؤكّد ما سبق، الصورة الرمزيّة الجميلة التي تضمّنها الغلاف، والتي تشير إلى حوائط غير مسقوفة؛ ما يعني أن الكتاب اتّخذ بالفعل من الحوائط غير المسقوفة إستراتيجيّة كتابيّة وقرائيّة لكامل العمل، تنسحب على مجمل النصوص، وتشير صراحة إلى أنّ بعض الحكايات لا سقف لفهمها، وأنّها مجرّد سرديّة تحكي مشهدًا معيّنًا أراد السّارد ألّا يُحَجِّر فهمه أو يضيّقَ أفقه، متّبعًا نهجًا مبتكرًا يسمح لكلّ قارئ بقراءة النصّ على طريقته، متعمّدًا عدم زرع شواهد واضحة توجّهه نحو معانٍ محدّدة أو رسالة معيّنة، تاركًا له حرّيّة اختيار السطح الذي يتناسب مع ذائقته ويحاكي همَّه وفق الأدوات التي يمتلكها.
?هذه المنهجيّة الكتابيّة الأصيلة كانت واضحة جليّة في غالبيّة نصوص هذه المجموعة الفريدة التي اختطّت من الرمزيّة النخبويّة إستراتيجيّة كتابيّة مسوَّغة، وقد استخدمَ المؤلّفُ العنوانَ وصورةَ الغلاف لتمريرها، ولم يكتفِ بذلك بل بوّبها ضمن إطار «نصوص قصصيّة»، كمَخرج يقيها أيّ تحفُّظ قصصيّ قد يأتي به النقّاد أو القرّاء على عمومهم؛ فالمجموعة القصصيّة تحاكَم وفق قانون القصّة القصيرة الذي يقضي لدى شريحة كبيرة من النقّاد أن تكون القصّة مسقوفة بمعانٍ محدّدة يوجد ما يشير إليها في ثنايا النصّ، أكان ذلك تصريحًا أو تلميحًا، ولا تُقبل القصّة القصيرة الإبداعيّة إن أخلّت بهذا الشرط وكانت حمّالة أوجه؛ بينما لا يمكننا قول ذلك في حقّ «النصوص القصصيّة» التي تحتمل الخروج على هذا القانون أو غيره، كما تحتمل الخروج عن اشتراطات القصّة، فهي نصوص أدبيّة مبهمة غير واضحة المعالم، اتّخذت من الحكاية وسيلة للبوح والكتابة، كما يحدث عادة مع كلّ الأجناس الأدبيّة، حيث يمكن أن تأتي المقالة أو الخِطبة أو ا لأحجية على هيئة قصّة، وحتّى الشعر نفسه قد يروي لنا قصّة؛ إلّا أنّ هذه الأجناس الأدبيّة تظلّ رغم ذلك محتفظة بجنسها الأدبيّ، وتتمّ محاكمتها فنّيًّا من خلاله، ولا يُخرجها من ثوبها توظيف القصّة في كتابتها وإن استحوذت على أغلب أجزائها.
بناءً على ذلك يمكننا القول، إنّ النصّ الأدبيّ فاقد الهويّة لا يمكن تناوله كقصّة ومحاسبته عند إخلاله باشتراطاتها؛ وقد تعمّد المؤلِّف كتابته على هذا النحو، مستبقًا أيّ انتقاد قد يوجَّه لكتابه، لينطلقَ في فكرته الأصيلة دون قيد أو شرط، ويجبرنا على قبوله في كلّ أحواله، متغاضين عن الرمزيّة المفرطة في بعض النصوص، وافتقارها لإشارات واضحة إلى المعاني المستهدَفة. إنّ الكاتب - في ظنّي - تعمّد ترك نصوصه متاحة للتأويل، تُفهم على عدّة أوجه، عندما عنونها بـ «سقف مستعار»، وبوّبها تحت «نصوص قصصيّة»، وقد أكّد على ذلك بتصميم الغلاف. ولعل في اختياره نصّ «سقف الحرّيّة» ليأتي في نهاية الكتاب، ما يقطع الشكّ باليقين، ويضعنا أمام حقيقة لا مفرّ منها، وهي أنّه يرغب في أن ننظر إلى نصوصه جميعها من منظار السقف المستعار؛ وما إتيانه بمفردة الحرّيّة ووضعها تاليًا بعد السّقف، إلّا ليخبرنا بأنّه قد وطّن نفسه على الرضا بأيّ قراءة نقدّمها لنصوصه، وأنّه يعلم تعدُّدَها وتمايزَها واختِلافَها.
مهما بلغ حرصنا على حماية القصّة القصيرة من أيّ تجاوزات تُخلّ بقيمتها أو تُخرجها من إطارها المعتاد، لا يمكننا، على ضوء ما سبق من شواهد، رفضُ أيِّ نصٍّ قد يأتي ضمن هذا التصنيف، بل نقبل رمزيّته مهما كانت متكلّفة وصعب علينا فهمها، حتّى وإن شكّلت أحجية حقيقيّة يصعب كسر تمنُّعها والوصول إلى مغزاها، كما لا يمكننا استخدام نظريّة التلقّي أو ما يمكن تسميته بـ «جماليّة التلقّي» للمنظِّر والناقد الألماني المعاصر «هانس روبيرت ياوس» لمحاكمته، رغم أنَّ هذه النظريّة أبحرت كثيرًا في هذا الجانب، مشدِّدةً على أنّ تلقّي النصوص هو جزءٌ لا يتجزّأ من قيمتها، وأنّه ينبغي للكاتب المبدع أن يضع هذا الأمر في اعتباره عند إذاعة نصّه، فلا يحقّ له تقديم نصوص مبهمة يصعب تلقّيها وفهمها، أو تقديم نصوص سطحيّة ومباشرة لا يمكن تأويلها والتعمّق فيها؛ ذلك ما يجعلنا نقول صراحة إنّ «من يفهم القانون فهمًا عميقًا يستطيع توظيفه لكلّ تجاوزاته ويسخِّره لخدمته، بينما من يحفظه دون فهم يوظِّف الآخرين لتقييد حركته وربّما شلِّها والانتصار عليه». وأظنّ كاتبنا يعلم جيّدًا أين يضع قدمه.
للحديث بقيّة - بإذن الله تعالى - حول هذا المصنف الإبداعيّ الذي يحتاج أكثر من مقال لإيفائه حقّه.
** **
- حامد أحمد الشريف