أفتح الصفحة الأولى، أدخل بكسل موظف في يومه الأخير قبل الإجازة، أقفز للقرن الثالث عشر الهجري، أدخل البلدة، على ضفاف واديها العظيم ينتشر النخل دون عد، أحلق نحو الحاضر، أتمتم بمطلع قصيدة الثبيتي:
يا أيها النخل ... يا أيها النخل.
أنسى تتمتها وأعود لأهيم في شوارع وأحياء البلدة، أتصفح الوجوه، أنصت إلى اللكنات، أتأمل الأزياء، أغرق في التفاصيل، القوافل المحملة بالبضائع، أصوات الباعة، المقايضة طمعاً بتمر البلدة، معدتي تفيقني من غيبوبة الدهشة، تجد في طلب الطعام.
- مرحبًا، أنا غريب هل أجد عندكم ما يسد جوعي ويروي ظمئي.
- أهلاً أخا العرب، بل أنت كريمٌ عند أكرام، تفضل بعد هذه النخل مجلس أخي، وخلف مرابط الخيل تلك تجد مجلسي، تفضل علي بتشريفه.
- ما أطيب قولك، المعذرة ... ولكن من سيفتح لي باب المجلس.
- هههههههه، سامحك الله وهل فينا من رجل يقفل باب مجلسه؟ أنت في «دجنة» الكرم والنخل.
لم أرغب في إحراجه بالوصول لمنزله وهو في عمله وتجارته، فاخترت مجلس أخيه، وبعد أن تآخى التمر والبر في معدتي، واشتد جفني شبعاً، رحت أستنطق الخدم بأسئلة ثرثارة:
- أين سيد المجلس؟
- في البادية.. ذهب في رحلة إليها، ونحن هنا لخدمتك، هل قصرنا يا سيدي في ضيافتك؟، «الجمعية» بما حوت من خيرات تحت إمرتك.
- لا لا أبدًا، على رسلك، فقط مجرد سؤال ليس أكثر، شكرًا سأنصرف لأدعكم تخدمون أولئك النفر من الرجال الذين أراهم يقصدون المجلس.
- لا عليك يا سيدي لدينا في مبنى «الجمعية» الملحق بالقصر والمخصص للضيافة من البر والشعير والتمر ما يكفي الجميع.
تخنقني الأسئلة المصطفة في رأسي، تطبق على أنفاسي كدخان أثلٍ يابس، وأصر على الفرار.
تأخذني قدمي نحو جنة من النخل، أسمع أصواتًا متداخلة، أتتبع الأصوات، مجلس في واحة من النخل أهله كلهم من الرجال، وامرأة وحيدة بينهم، أو هكذا ظننتها وحيدة، رأيتها تشد الرأي نحوها، وتميل المجلس إليها برجاحة قولها، أصوات الرجال تتقاطع، الرأي يصرع الرأي، وما إن تتحدث تلك المرأة، حتى ينصت الجميع لها، تنطق بأدب وتؤدة، لا تسفه آراء الرجال وإنما تجيد انتزاع الحكمة من أفواههم، كان المجلس حينها مشغولاً ببناء سدٍ ترابي يحبس الماء شرقي الوادي، لكنها رأت ناهضت الفكرة وقوضت المشروع، خوفًا من أن يرتد الماء على أهل بلدتها «تربة»، يا الله ما أجمل منطوق هذه السيدة الكبيرة، تجاعيدها تنطق حكمةً، وصوتها مزيجٌ حال من الشجاعة والسداد.
انفض المجلس بعدها، لم أستطع اللحاق بها، ههههههههه مرت بجانبي، الحقيقة أنني هبتها، لا تضحكون عليَّ حتى أنتم لو كنتم مكاني لارتعدت فرائصكم، امرأة مهيبة باسقة كالنخل، تناضل دون حقها ورأيها بشجاعة، تريثت قليلاً حتى غيبها النخل، رأيت رجلاً سلك طريقًا وحده، لحقت به، حاولت استيقافه والانفراد به وسألته:
- ومن تكون تلك السيدة؟!
- التفت نحوي وابتسامة فخرٍ وزهو تفر من فمه:
- هذه فخرنا، سيدة الحكمة، «أخت غمرات»، فزاعة النخل، شوكة النضال، أميرة المقاومة.
شوقني ذلك الرجل العجوز المتباهي، وعدت أنبش السطور خلف سيرة هذه الأيقونة:
كانت شوكة في نحر العدو، تهيج الأرواح بخطبها فتتوثب نحو الموت دون وجل، تخاطب النخوة في نفوس الرجال، أضع نفسي أمامها، أنصت لها، إنني أتعرض لأقوى عملية تجريف للذات، أغتسل بكلماتها، تطهرني من آخر ذرة خوف في داخلي، أتخيل الخوف رجلاً من القش فأهدمه تمامًا من داخلي، يقشعر جسمي، حبيبات الانتشاء تتناثر على جسدي، شعري ينتصب، أستطير شجاعةً، أرغب في ذلك العدو، احتاجه حالاً لأمزقه.
يا لها من أيقونة، تنفق بسخاء، لا تمهل نفسها وقتًا لتفتح صناديق الذهب، بل تكسرها وتنثر خيراتها على الجند، تشارك في المعارك، تثور وتقاوم، فلا حصار الأيام الثلاثة الذي اهتدى إليه «مصطفى بك» أجدى معها، ولا تعداد العدو الغازي أرهبها، لم تمكث خلف الأسوار المحصنة بل انقضت عليهم بجيشها، حتى تجشأ وادي سليم جثثًا تنفث الروائح فتحول اسمه لوادي رِيحان، لقد ألحقت بذلك الضئيل هزيمةً حتى سارت سيرتها وأخبارها بين جند العدو، فراحت تسطر حولها الحكايات فقالوا عنها ساحرة، تبث من روحها في أرواح جندها فلا تغلب ولا تقهر.
استوقف القراءة وأنشد، بعد أن تذكرت تكملة قصيدة الثبيتي:
يا أيها النخلُ،
يغتابك الشجر الهزيل،
ويذمُّك الوتد الذليل،
وتظلُّ تسمو في فضاء الله،
ذا ثمرٍ خرافي، وذا صبر جميل.
أرقص، أصفق، أستدير، أقفز، إنها نشوة الفخر يا أصدقائي.
جن جنون الطربوش، استشاط غضبًا، ما الذي سيمحو عار الهزيمة من امرأة؟، دفع بابنه نحوها، تسلح وخطط، أعد العدة، حاصر البلدة، لكن لا محالة وقع في الفخ، فجاع وانهزم، حتى أكل عساكره نخاع النخل، لقد منحت تلك الضفائر المجللة بالنقاء طوسون الغازي درساً قاسيًا حتى كاد يهلك، فخنع وفر محفوفًا بال خذلان.
بعد تكرر الهزيمة، جاء الأب بنفسه، تقوده ذاكرة من الذل والحقد، تقدم محمد علي باشا، محملاً بشرور الغزاة، حمل الفؤوس للنخيل، والمدافع لصدور الرجال وغاليتهم، والنجارين للأنفاق، وفي سبيل النوايا التي لا يخالطها الخير للأرض وأهلها، أحضر حمل بعير من حب البطيخ ليزرعه في البلدة بعد أن يبيدها ويمحو معالمها.
وأخيرًا استطاع أن يصرخ بعدما فاز بالخسارة:
«أمست دار غالية خالية»
أغلق الصفحة الأخيرة، أحك فروة رأسي، تسقط «شجرة الدر»، تتبعها «جان دارك» وتنتصب كالنخل غالية البقمية.
** **
- فيصل الشهري