د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
6) الوصف اللغوي والتحليل:
قبل أن يشرع الشيخ في الكلام على المواقع الجغرافية كتب عن بعض الظواهر البارزة في اللغة المحكية في نجد عامة والقصيم خاصة(1). ونجده يبسط مقدمة بين يدي (معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة) يبحث فيها جملة من القضايا المهمة بحثًا لغويًّا جديرًا بالتأمل والاستفادة به، فناقش (المراد بالعامي)، و(العامي الفصيح)، و(معجزة اللغة العربية)، (جمع الألفاظ العامية)، و(توثيق الكلمات العامية)، و(كتابة الشعر العامي)، و(كتابة الألفاظ العامية)، و(الكلمات الفصيحة)(2).
والشيخ العبودي مدرك لأهمية عمله، يقول عن الألفاظ الدارجة «لنثبت بذلك أن أسلافنا العرب كانوا قد استعملوها منذ قرون طويلة، وأنها بقيت حية نامية مستعملة في بلادنا حتى الوقت الحاضر، أو ما قبل ذلك بقليل مما عرفناه وعاصرناه. وذلك خلاف الكلمات الفصيحة التي ذكرتها المعاجم وكتب اللغة؛ ولكن العامة من بني قومنا لا يعرفونها؛ فضلًا عن أن يكونوا يستعملونها»(3).
دراسة العبودي للغة ذات بعدين أفقي حاضر وعمودي تاريخي، وتظهر ثمرة هذه الدراسة حين يراد أن يؤرخ للكلم العربية، وعبر عن ذلك في قوله «فرب لفظ مات في كل اللغات السامية الحية المعروفة، ولكنه بقي في لغة العامة في بلادنا يدل على عروبته ومن ثمَّ ساميِيَّته، ويؤكدها تدوينه قبل ألف سنة في كتب اللغة ودواوينها العربية»(4).
ومن تحليله اللغوي قوله «تقول: البر فيه عشب قليل (تماكنه) قبل يرعى أي حشه قبل أن يرعاه الناس و(تماكن) هنا فعل أمر، وهي تأتي فعلًا ماضيًا كقولنا: تماكن زوجته الكبيرة وجاب الله له منها ولد»(5). ومنه بيان الجمع ومفرده، كما في حديثه عن الطائر (البَصْوَة) قال «وكانوا يصطادونه مع الدُّخّل والطيور المهاجرة الأخرى بالمفاقيس- جمع مفقاس- وهي شراك صغيرة توضع على البرك التي فيها ماء، جمع البصوة: بصو»(6)، والبصو اسم جنس جمعي ولكن المعجميين يعدونه جمعًا. ومنه بيان التفسير بالتصغير، قال عن (سْرَيّرة) «صيغة تصغير (سَريرَة) ضد علانية. مزارع قديمة للحبوب والقمح في ناحية المذنب إلى الشرق من مدينة المذنب وقد تركت زراعتها منذ سنوات»(7).
وتفسيره اللغوي وارد؛ غير أنّ الاسم مأخوذ من لقب جَدّ من أحيا هذه الأرض وهو (سْريّر) وكان في طفولته يلثغ بالصاد فينطقها سينًا، فكان يقول أبي سْرَيِّر أي صريّر، وكانوا يصرون التمر في صرار.
وربما أجاءه حرصه على التأصيل اللغوي إلى أن يحلل اللفظ في كتابة النص على أصله الذي يراه، إذ نعرف المثلين (أم سالم قبل تِجِيب سالم وش اسمها)، و(البردان يِجِيب حطب)، هكذا ينطق الناس (يجيب) الذي ماضيه (جاب) والمبني للمفعول منهما (يْجاب/ جِيب)؛ ولكنّ الشيخ كتب الفعل (تجيب) و(يجيب) حسب الأصل اللغوي قبل النحت، فجاء هكذا:
«298-(أمْ سالم قبل تجي بْسَالم وِش اسمها)
أمّ سالم: كنية العصفور الصحراوي الذي هو المكَّاء في الفصحى.
و(وش) أي شي: وهذا من أمثال البادية يأتون به للتهكم ممن يَدَّعي العلم بالأشياء يريدون أنك إذا كنت تدعي المعرفة فاعرف ما اسم (أم سالم) قبل أن تأتي بسالم فتكنى به!»(8). أراد الشيخ أن (تجيب) منحوت من الفعل (تجيء) بعد حذف همزته وإلصاق الباء من (بسالم) بعد فصلها.
«374-(البردان يجي بْحَطَبْ)
المعنى: أنَّ المَبْرُودَ يضطره البرد إلى أن يأتي بحطب فيضعه على النار ليستدفئ به. يضرب على أنَّ مَنِ احتاج إلى شيء فإن حاجته تضطره إلى أن يسعى إلى تحصيله»(9). والناس لا يقفون على تجي بل على الباء ملصقة بالفعل تجي.
ولم يقف تحليل الشيخ ومعالجته اللغوية عند الكلمات العربية بل تعدى ذلك إلى الكلمات الدخيلة من اللغات الأجنبية، والطريف أنه صنف معجمًا لهذه الكلمات الدخيلة وجعله كالمعاجم العربية ذات المداخل التي هي جذور اللفظ وكان الأجدى أن يرتب المعجم ترتيبًا هجائيًّا لأن الدخيل ليس كالأصيل المتصرف، ومن أمثلة ما جاء من الدخيل قوله:
«ب ا ص
(الباص): جواز السفر، هكذا كانوا يسمونه أول ما عرفوه أخذًا من اسمه بالإنكليزية بار بورت (Passport). نقلت العامة المقطع الأول منه وهو (باص) فعربته باللفظ (باص)، ومعناها بالإنكليزية: مرَّ، وقد قلَّ استعمال هذا اللفظ حتى مات أو كاد، واستعاض الناس عنه بالكلمة العربية (جواز). قال أحمد الناصر السكران من ألفية:
الصاد ما لي من هوى البيض مخلاص ... أيضا ولا لي تابعيّه ولا (باص)»(10).
وأول مرة سمعت كلمة (الباص) في قريتنا حين تهامس الناس بأن (علي السليمان) ابن خالي (قص باص يبي يروح للكويت) وكان الكويت في ذلك قبلة الشباب من طلاب العمل.
وتحت هذا المدخل قال الشيخ «و(الباص): أيضًا الحافلة، وهي السيارة الكبيرة التي تكون كالغرفة الكبيرة قد صفت فيها المقاعد الكثيرة والوثيرة صفوفًا للركاب»(11). ولكن الشيخ لم يبين أصله الإنجليزي (bus).
والحق أن جهود الشيخ العلامة محمد العبودي اللغوية متنوعة متعددة هي مجال خصب لعدد من دراسات الباحثين.
** **
(1) محمد بن ناصر العبودي، معجم بلاد القصيم، 1: 81-88.
(2) محمد بن ناصر العبودي، معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة، 1: 6-22.
(3) محمد بن ناصر العبودي، معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة، 1: 10.
(4) محمد بن ناصر العبودي، معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة، 1: 21.
(5) محمد بن ناصر العبودي، معجم الحيوان عند العامة، 2: 478.
(6) محمد بن ناصر العبودي، معجم الحيوان عند العامة، 1: 92.
(7) محمد بن ناصر العبودي، معجم بلاد القصيم، 3: 1151.
(8) محمد بن ناصر العبودي، الأمثال العامية في نجد، 1: 213.
(9) محمد بن ناصر العبودي، الأمثال العامية في نجد، 1: 256.
(10) محمد بن ناصر العبودي، معجم الكلمات الدخيلة في لغتنا الدارجة، 1: 22.
(11) محمد بن ناصر العبودي، معجم الكلمات الدخيلة في لغتنا الدارجة، 1: 23.