أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
ولو لم يكن لهذا المؤلف الجادّ الصبور (أ.د. أحمد سعيد قشاش) إلا أنه فتح بابًا جديدًا مختلفًا للبحث في النبات في بلادنا الواسعة، المتنوعة بتضاريسها المتنوعة ومناخها لكفاه فضلا وشرفًا، ولكنه حين شقّ الطريق فعل كل شيء، وكشف للمعنيين بالغطاء النباتي عن جملة من النباتات والأشجار المهدّدة بالانقراض، فنهضتْ موسوعته في طبعتها الأولى بفضيلة التنبيه والحفْز إلى العمل الميداني الجاد في حقل النبات للعناية به ودراسته ومحاولة إكثاره في محميات خاصة والحفاظ عليه في منابته، ولم يكتف المؤلف بالحفز والإرشاد بل بادر وصنع محميّة خاصّة للنبات، وأنفق عليها الكثير من ماله الخاص، وأعطاها الكثير من جهده ووقته، وأطعمها من عقله ووجدانه، وقد رأيتُها ورأيتُ فيها الكثير من النباتات التي لم أكن أعرفها من قبل، ورأيت المعنيين بالنبات والباحثين فيه يرتادون محميّته تلك.
ولا أريد أن أضع القلم قبل التنبيه على خطورة العمل الميداني في البحث العلمي الحديث وصناعة المعرفة، التي تشغل عالمنا المتوثّب إلى كل جديد ومفيد، فهذا الكوكب الفريد الذي يحتوينا لا يكفُّ عن إنتاج المعرفة ولا يكفُّ عن تهذيبها وإنمائه، وإنَّ أحسنَ البحوث وأنفعَها ما يكون مصدرًا أصيلا في فنّه حتى لو تأخّر زمانه، وإنّ من الأعمال الميدانية الجادة ما يكون مصدرًا أصيلا للمعارف والعلوم، فالأعمال الفذة لا تعتمد على المصادر إنما تكون هي المصادر لمن يأتي بعدها، تُدوّن ما لم يُدوّن وتستدرك وتصحّح ما لم يُصحّح، ويكون التدوين والاستدراك والتصحيح عن فحص أصيل ومعاينة، يقف الباحثون على أصول المعارف في ميادينها ومواطنها، يرَوْنَ ويفحصون ويصِفون ويشافهون الناس.
ويمكن القول: إنّ الفُرَص الميدانية لصناعة المعرفة في بلادنا عديدة والبحوث فيها متنوعة:
أ-فمن البحوث الميدانية ما يُعنى بالآثار الكتابية الصخرية والنقوش القديمة وآثار الأمم المندثرة، ويسعى الباحثون إلى الكشف عنها في مواطنها ومدافنها ومواضعها المنسيّة، كما صنع عبدالرحمن الأنصاري وعيد اليحيى ومحمد المغذوي.
ب-ومن البحوث الميدانية ما يرصد بقايا الحكايات والروايات في الأنساب والتاريخ والثقافة الشعبية غير المدوّنة، كما صنع عبدالكريم الجهيمان وعبدالله بن خميس.
ت-ومنها ما يَصِف المواضع الجغرافية، ويحرّر ما جاء في مصادر البلدانيّات، كما صنع حمد الجاسر وعاتق البلادي وابن جنيدل في رحلاتهم الميدانية المتعاقبة.
ث-ومن البحوث الميدانية ما ينصرف إلى جمع الوثائق الخاصّة لدى أبناء القبائل والعوائل التي كُتِبت قبل قرن أو قرنين أو يزيد لتوثيق مبايعاتٍ أو عقود لِزَمٍ بين القبائل ونحو ذلك، وهي مكتوبة بلغتهم ومصطلحاتهم التي يألفونها في زمانهم، وفي جمعها نفع كثير، للغة والأنساب والتاريخ، وقد جمع منها باحثون قدرًا صالحًا، في مناطق مختلفة من بلادنا، فليت دارة الملك عبدالعزيز تجمع الوثائق التي نُشرت مفرّقة لباحثين مختلفين، وتنشرها مجتمعةً في موسوعة واحدة.
ج-ومنها ما يُصنّف ضمن علم اللغة الميداني، ومن فروعه ما يُعنى باللهجات فيجمع ما يُسمع من أفواه الناس في منابع اللغة، وخير مثال لهذا مشروع الفوائت الظنية الذي يلتمس فائت المفردات والدلالة مما تكلّم به المنبعيّون وأخلّت به معاجمنا العراقية، وقد هداني الله عز وجل إلى الاشتغال به والانكباب عليه، وكانت ثمرة عملي فيه أن جمعت أكثر من 4000 كلمة أو دلالة فائتة، مستعينًا بوسائل التواصل الاجتماعي والمشافهة الميدانية في البادية، وإنّ في جمع مفرداتنا اللهجية الفائتة وتوثيقها تخليدًا لها وحماية من الاندثار، وسدّ ثلمةٍ في معاجمنا القديمة.
ح-ومن الأعمال الميدانية ما يُعنى بالبيئة وحماية الحياة الفطرية الحيوانية، وبلادنا بطبيعتها المناخية والتضاريسية بيئة خصبة للتنوعات الحيوانية، فكم فيها من أنواع السباع والطيور والدوابّ والزواحف والحشرات؟ وبعضها مهدّد بالانقراض وبعضها مجهول، وهي تشاركنا الحياة وتؤثّر في البيئة والنبات، ومع ذلك فإنّ هذا الميدان المهم لم يأخذ حقّه من البحث والعناية.
خ-ومن البحوث الميدانية الأكثر نفعًا ما يتتبّع النبات في بيئته الأصلية وجباله وأوديته فيصوّره في مراحله المختلفة ومنها مراحل ازهاره ومراحل إثماره، فيتفحّص ويصف ويسأل أهل الديار عن أحواله ويستعين بالصور النقية التي تغني عن الكثير من الوصف، ويضيف إلى ذلك ما تراكم لديه من خبرات، كما فعل صاحب هذا المعجم الفريد.
وأقول في الختام: إن هذا العمل الذي بين أيدينا هو أحد النماذج الأبرز والأكثر نجاحًا ونفعًا في حقل الأعمال الميدانية، فشكرًا للأستاذ الدكتور أحمد بن سعيد قشاش الغامدي على هذا المعجم أو هذه الموسوعة النباتية، وليت المؤسّسات الحكومية المعنيّة بالنّبات وعلى رأسها الجامعات ووزارة البيئة والمياه والزراعة تعينه على المضيّ في مشروعه والتوسّع فيه، فلم يزل في القوس منزعُ، وهو مشروع وطن، أصبح اليوم حلقة من حلقات المبادرة الطموحة التي أطلقها ولي عهدنا الأمير محمد بن سلمان: «مبادرة السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر» التي تستهدف زراعة خمسين مليار شجرة في المملكة والشرق الأوسط.
فأسأل الله عزّ وجلّ أن يبارك في هذا المعجم وينفع به، وأن يجزي صاحبه الجزاء الأوفى.