سهام القحطاني
رجل قدّر الصحافة فقدّره التاريخ.
«كنت ولا أزال أرى فيها نفسي وسعادتي مهما أصابني من ضررها، ونالني ما نالني من تحديات بسببها، فقد كنت أواجهها بالصبر والتحمل والإصرار على بلوغ أهدافي في خدمة وطني من خلالها. «- من مقالة ما بيني وبين الصحافة، لخالد المالك -.
*حصول أستاذنا خالد المالك رئيس تحرير «صحيفة الجزيرة» ورئيس «هيئة الصحفيين السعوديين» و «رئيس اتحاد الصحافة الخليجية «على جائزة «شخصية العام الإعلامية» للصحافة العربية.
وقبلها «جائزة الرواد» من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في جمهورية مصر العربية، على هامش اجتماعات وزراء الإعلام العرب.
والحقيقة أن هاتين الجائزتين على سبيل المثال لا الحصر أضافتا بريقاً فوق بريق لقيمة وقامة أستاذنا خالد المالك، هذا الصحفي الذي أحبّ الصحافة وآمن بها حتى النخاع.
إيمان وحب نابعان من قيمة هذا الوسيط الإعلامي الذي تتخلق النهضة الثقافية والفكرية من بين نوافذه ورائحة أوراقه وأحباره، وليس من أجل الاستفادة المادية واستغلالها لمصلحته الشخصية كما كان يفعل الكثير، لذلك تهاوى كل من كان ينظر إلى الصحافة بأنها مجرد «لقمة عيش» و طواه الزمن والذاكرة،وسطعت شمس خالد المالك لأنه كان يؤمن أن الصحافة هي ذاكرة الشعوب وقلم وعيها ومسطرة قيمها ومدونة إنجازاتها والوجه الحضاري لأي مجتمع.
عشق الصحافة فلم يبخل عليها بجهده وفكره وكان سلاح الدفاع عن كرامتها وقيمتها وحق بقائها على قيد الحياة، يكاد يكون الوحيد في ميدان الدفاع عنها بعدما تخلى الجميع إلا القليل واصطفوا على الجانب الآخر لكنه تحدٍّ لم يهرب منه كما هرب غيره فالفارس لا يهرب من الميدان.
لأنه يؤمن بأن أشجار الخريف لا تعني الموت وإنما هي انتظار لحياة قادمة.
*الحديث عن أستاذنا خالد المالك هو حديث عن تاريخ الصحافة السعودية في أحقابها المختلفة وتحولاتها النهضوية وأحد مؤسسي الهيكلية الصحفية في السعودية، والتنويريين الذين نقلوا الصحافة من كونها وسيطاً إخبارياً إلى فاعل وشريك في نهضة الفكر السعودي.
فما يميّز خالد المالك أنه لم يحبس شخصيته في «قفص الزمن الواحد أو الفكر الواحد أو المرحلة الواحدة» كما فعل غيره فسقطوا بسقوط المرحلة والفكر والزمن، لذا استحق أن يكون «أستاذ الأجيال» و»عرّاب المراحل» و»ومجدد التحولات» في الصحافة السعودية.
لم يؤمن بالفكر الواحد ولم يسحب صحيفة الجزيرة إلى «فخ الأيديولوجية» لذا كانت وستظل صحيفة الجزيرة كطبيعة المجتمع السعودي الذي ينعم بالتنوع الاجتماعي والثقافي في ظل الوطنية الواحدة بقيادة ولاة هذا البلد المبارك من المؤسٍس إلى الأبناء إلى الحفيد.
في حين كانت الصحف السعودية تتسارع نحو «التحزّب الفكري» وقيادة الأحادية والتطرف الفكري.
وكانت الثقافية في صحيفة الجزيرة بقيادة خالد المالك والدكتور إبراهيم التركي هي النبض الحقيقي لذلك التنوع الثقافي والفكري والاجتماعي، ولذلك ظلت الثقافية وتلاشت الملاحق الثقافية الأخرى التي انطلقت من التحزّب الفكري.
لعل الصورة النمطية في الذهنية الجمعية بأن «رئيس التحرير» هو مدير سلطوي يأمر وينهى يمنع ويسمح، وهذه صورة ذهنية غير صحيحة، «فرئيس التحرير» هو مؤسِّس فكر، مُخطط منهجية، وكل صحيفة تنطلق من أسس ذلك الفكر ونماذج تلك المنهجية.
وبذلك فأنت تستطيع مقياس تميّز كل صحيفة فكرياً ومنهجياً بمقدار ما يمتلكه رئيس تحريرها من وعي فكري وقدرة منهجية على التخطيط.
ومحافظة صحيفة الجزيرة على «وهج قمتها» في خضم التحولات الرقمية التي دخلت مع الورقي في صراع، دليل على ما يمتلكه خالد المالك من رؤية فكرية متزنة تتفاعل مع التحولات دون تطرف نحو هذا أو ذاك.
*القيمة لا تتشكّل من فراغ، إن القيمة السعودية والخليجية والعربية التي تتمثل في شخصية خالد المالك قيمة نابعة من عراقة تاريخ هذه الشخصية التي تمثل ذاكرة الكثير من التحولات والتحديات التي كان يخرج منها منتصراً بالإنجاز.
قيمة نابعة من عبقرية هذه الشخصية القيادية والإدارية ليس لسفينة نوح «صحيفة الجزيرة» فقط بل وللفكر الصحفي في السعودية من خلال هيئة الصحفيين السعوديين بقيادته التي أصبحت نموذجاً إدارياً في منطقة الخليج.
إن سرّ «الوهج والبريق» اللذين يواكبان خالد المالك في إنجازه إيمانه بأن النجاح لا يتحقق إلا من «خلال التكامل» هذه التكاملية التي تُتيح لجميع الكفاءات أن تتشارك في صناعة المنجز، فالفردية مهما بلغت عبقريتها لايمكن أن تُنتج إنجازاً يتصف باستدامة نهضوية.
وليست التكاملية فقط هي التي تمدّ خالد المالك بالوهج والبريق، بل إضافة إلى ذلك ما يمتلكه من «فكر ورؤية تنويريين» جعلته دوماً يؤمن ويدعم الأجيال والمواهب ويمنح لهم الفرص لإثبات الوجود وهو ما يحفظ نبض التجديد للصحافة.
قالت الدكتور فوزية البكر في بث إذاعي «لإذاعة الرياض» إن خالد المالك كان داعماً لها في بداياتها ومشجعاً لموهبتها بل ومنحها فرصة لإثبات قدرتها وكفاءتها.
والحقيقة أن خالد المالك منذ زمن الدكتورة فوزية البكر حتى اليوم ما يزال داعماً للقدرات والمواهب وخاصة المرأة، وهذا جانب حضاري في شخصيته يزيد من بريقه لمعاناً.
الشجاعة أيضاً من أسباب بريق وتوهج خالد المالك أينما ذهب،إن الشجاعة هي التي تؤسس تاريخ الشخصيات، الشجاعة في مواجهة التحديات، الشجاعة في تحمل نتائج ما يؤمن به، الشجاعة في قرار التجديد.
*من يقرأ لخالد المالك سيلاحظ بأنه يمتلك أسلوباً حكيماً هادئاً رزيناً فهو لا يؤمن بأن الضجيج صوت الحق والتبجح برهان منطق، أسلوب يُعلمكّ أدبيات الحديث وأن الحق يُرى من بين طيات المياه العذبة وأن الأمواج الهائجة تغشى دوماً الرؤية الواضحة، أسلوب يعتمد على التحليل العقلاني المرئي بالشواهد لا يفتش النوايا ولا يقيم في ظلامها المشانق.
هذا هو خالد المالك ليس مجرد «حكاية تاريخية تخلقت من رحم الصحافة السعودية» بل أسطورة الصحافة السعودية فرغم عقود الزمن الضاربة في التاريخ والتحولات والتحديات ما يزال يزداد «بريقاً فوق بريق».