د.رفعة بنت موافق الدوسري
اشتغل الدارسون منذ زمن بعيد بالخطاب السياسي؛ لما له من حضور قوي في تسيير حياة المجتمعات الإنسانية وسيرورتها وتطورها على مر العصور، إذ تحل اللغة في الفضاء السياسي محل الأدوات المادية، فتقصي مظاهر العنف، لتستبدل بها قوة اللغة والحجاج، فتصبح اللغة من أهم أدوات الساسة وصناع القرار، وأسلوبًا فاعلًا للتعاطي مع الشؤون المحلية والدولية، وقد ظل الخطاب السياسي مرتبطًا بمستوى المجتمعات الإنسانية، متماهيًا مع حجم تناقض المصالح التي تقرها النخب السياسية، فكلما تقدمت حضارةٌ مَّا، ازداد وعي أفرادها بأهمية التواصل عبر اللغة في إدارة الاختلاف.
إن الاهتمام بالخطاب السياسي في الثقافتين الغربية والعربية قديم، إذ قعّد له أرسطو في كتاب الخطابة، وَعدَّ العرب القدرة على الخطابة السياسية شرطًا من شروط الرياسة، فربطوها ربطًا مباشرًا بالقوة والتمكين؛ إلا أن الخطاب بصورته الفاعلة في الشأن السياسي لم يكن ذاك حاله على مر التاريخ، إذ كان يغيّب إبان المواجهات الدامية التي شهدتها المجتمعات البشرية في حقب مختلفة من التاريخ.
وظل الاهتمام بالخطاب السياسي يشهد مدًّا وجزرًا من مدة لأخرى، ومن حيز ثقافي لآخر، بفعل كثير من العوامل الاجتماعية والسياسية، ومع هذا يقر تاريخ الحضارات الإنسانية بالتلازم الواضح بين توفر الشرط الديمقراطي والاهتمام المتزايد بأدوات الخطاب السياسي، إذ كلما ازداد الاهتمام بقيم القانون والعدالة في حقبة مَّا، تصاعد أيضًا الانشغال العلمي بالخطاب السياسي ووسائله وآلياته.
ثم تجدد الاهتمام بالخطاب السياسي بوصفه أداة لتسيير الشؤون السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، إبان ظهور الصحافة والمذياع، إذ أسهمت التقنيات الحديثة -في تلك المدة- في استثمار الساسة للغة كأداة حرب، أو وسيلة لتدبير الشأن السياسي بمعزل عن المواجهات الميدانية العسكرية.
وهكذا استقر ما يسمى بتوظيف الخطاب السياسي ضمن أدوات الساسة وصناع القرار، بوصفه أداة للتعاطي مع الشؤون الدولية، فاستثمرت تلقيه وتحليله المراكز الفكرية ومراكز البحوث، وكبرى الجهات الحكومية الفاعلة في الشأن السياسي على مستوى العالم، فكشفت تلك الدراسات عن مستويات متعددة لتوليف الخطاب السياسي وتحليله، وعن أنواع مختلفة للخطاب السياسي ضمن وجوهه ومعارضه ومقاماته، إذ أصبحت صناعة الخطاب السياسي وطريقة عرضه وتقديمه في حد ذاتها فنًّا خاصًّا.