د. شاهر النهاري
وهذا الهدف يظل حلم كل مبدع أو فنان أو صاحب منتوج ثقافي، فبلوغ العالمية مسمى يتجاوز كل التقييمات المحلية، ويرسخ في الوجود، كثقافة للبشر جميعهم، ومما يعلي المنافسة، والتي لا تكون دومًا صادقة، ولا محددة، فكم تختلط الأمور، وكم يحتال كل من له حيلة، وكم تكثر المنافسة بالزيف، على طرق مختصرة، ربما يرى البعض أنها بلوغًا للعالمية.
وسؤال المليون هنا، والذي يجب البحث فيه على مستويات الثقافة المحلية والدراسات الجامعية في كل الأوطان هو: هل قام المبدع بالوصول محليًا، وبلغ الشارع، وهل هو ممن يشار إليهم بالبنان، ليس فقط دعائيًا وإعلاميًا، ولكن من خلال الشعب، الذي يحب ويتابع أعماله، ويفهمها، ويستلذ بما فيها، وهل أصبح في مفهوم المجتمعات مرشحًا للخروج من المحلية الصادقة الشفافة الدافئة المحببة، إلى مراحل العالمية؟
عندما يفوز مبدع في مسابقة خارجية، فغالبًا ما يكون قد نال الدعم سواء على مستوى مؤسسات الدولة، أو على مستوى الشركات الخاصة، ولكن هذا ليس بلوغًا للعالمية، كونه مجرد محاولة من تلك الجهات للظهور بين الدول المتنافسة بشكل ثقافي أصيل مميز، ومهما اختلفت الآراء والتقييمات الدولية حيال ذلك، ومهما ظل العمل وصاحبه نكرات بالنسبة لثقافة الشعوب الأخرى.
الأمر سهل، فمجرد تبني العمل من جهة محلية، وقدرتها على الصرف الكريم، سواء في حمل العمل إلى المنصات العالمية، أو الترويج له دعائيًا، يصبح العمل موجودًا في الخارج بشكل ضيق، ولكنه ليس عالميًا!
بعض المبدعين، قد لا يجد الدعم في وطنه، فيحمل عمله ويجول به بين المنتديات والمعارض الدولية، على نفقته الخاصة، ويجري المقابلات مع الإعلام الأجنبي، وربما يستفيد من رأي متخصص هنا، وناقد من هناك، ولكن هل بذلك يبلغ العالمية؟ بالطبع لا، فهذا جهد يشكر عليه، ولكنه لا يعطي الأثر الراسخ، بحيث يصبح عمله عالميًا تحبه الشعوب الأخرى.
فيودور دوستويفسكي، الكاتب الروسي العالمي في فن الرواية العميقة النفسية، أو الرسام الإسباني سلفادور دالي لم يبلغا العالمية دون أعمال محلية تضج بالإبداع، ويعرفها كل أقرانهما، ويتناولها المختصون بالدراسة والنقد، وقد لا يكون في ذلك بذل جهد محلي في نشرها عالميًا، وقد لا يكون لدولتيهما أي أدوار مرئية في شهرتهما ووصولهما، ولكنهما استطاعا عبر إشباع محليتهما، وبلوغ صداها لطبقات المتلذذين بأعمالهما، عبور الحدود والأذواق، ما جعل الدول العالمية، المهتمة بالإبداع تجهد بحثها، ومن خلال مؤسساتها الثقافية تذهب إليهما، في محليتهما، لتتمكن من دراسة وتفهم أعمالهما بإيمان بالجودة والندرة والعمق، وبالتالي دفع الأموال، من أجل تصويرها وترجمتها، للغاتهم، وكتابة الدراسات والرسائل الجامعية عنها، ما يجعلها كالنار في الهشيم تنتشر بين الدول، القريبة، والبعيدة، عن طريق عدوى التذوق، ودون أن يشحذ المبدع أو مؤسسات دولته الدول الأخرى للتفضل عليهما بحسنة تعظيم أعماله.
هنا يكون الوصول للعالمية أصيلاً حقيقيًا، كأغصان شجرة خضراء مزهرة، عميقة الجذور، ضخمة الساق، متفرعة الأغصان والظلال، ومن خلال رؤية المؤسسات الثقافية في البلدان المختلفة، والتي تسعى لجذب هذا الإبداع لأوطانها، ولشعوبها، ومجتمعاتها الثقافية، إيمانًا بجودتها، وجدواها ومعدنها، وليس لمجاملات، أو تبادل ثقافي، أو رضوخ لدعايات أو مشاركات في مؤتمرات ومعارض يقصد منها البريق.
ولو أخذنا عن مثل ذلك مثالاً من الثقافة المصرية، لوجدنا أن الرواية المصرية قد بلغت نوعًا من الانتشار المحلي بل وخرجت إلى مختلف مثقفي الدول الناطقة بالعربية، وليس من خلال الكتب فقط، ولكن بالسينما والتليفزيون، لعدد كبير من روادها، حتى أن يوسف إدريس كان ينافس نجيب محفوظ، فيما يقدمانه من إبداع محلي في القصص والروايات، وأن اختيار نجيب محفوظ، من قبل جائزة نوبل العالمية، جعل الكثير يستغربون، كيف تم إهمال يوسف إدريس، ولكن العالمية ميزان عين لا تكذب، ونسبة الانتشار تفرق، وندرة المنتج وما يسببه من الدهشة للمجتمعات العالمية، يجعل الدرب ممهدًا ومحددًا بالنسبة لمن يقوم بالترشح للجائزة، والتي تعني بلوغ ذائقة المثقفين عالميًا، ودون دعم من دولة أو مؤسسات خاصة.
نجيب محفوظ، كان بذاته مندهشًا كيف أتته العالمية، بحثًا عن جودته المحلية، وهذا ولا شك دليل على الانتشار، ولا ننسى، فأغلب المغتربين كانوا يحملون كثيرًا من أعماله في ثقافة محيطهم، وفي كل منتدى خارجي، تجد من يذكره، ومن يكتب، ومن يقدم الدراسات، ومن يشوق الشعوب الأخرى إلى إبداعه، وهذا ما يحرك المؤسسات العالمية القائمة على الترجمة والطباعة والنشر، للبحث بنفسها عن هذا المبدع، ودون انتظار قدومه بنفسه.
كثير من الجوائز العالمية تعني الكثير لأصحابها، حتى ولو كانت من جهة مغمورة، وهذا لا يعني بلوغ العالمية، فهي بضاعة شركات ربحية، تعطي من يمتلك المال، ومن يمتلك الدعم المؤسسي ما يريد، وهذا قمة السخف، ودليل على استغفال أنصاف المبدعين، ودولهم، لدفع المعلوم، حتى يتم الإشادة بهم أو بأعمالهم في حفل أو ندوة، وتظل تلك الشركات هي الرابح الأكبر، ويعود من نال الجائزة أو الشهادة بكل استعلاء، ونفخة صدر، بعد أن صدق بأنه قد بلغ برأسه العالمية، بينما نرى قدميه، لم ترتكز بعد بالكامل في تربة وطنه، وأنه غير معروف لكثير من مثقفي وطنه، إلا من خلال الصور، التي تلتقط له في الاحتفالات المتعددة، وفي مواقع التواصل، مع أنها لا تعني بأي حال من الأحوال، أنه أصبح عالميًا.
هنالك أصول وثقافة، يجب أن يتعلمها مبدعو الدول العربية، وهنالك طريق صعب لا بد من مشيه ومن تحمل معاناته، ولا بد لهم أن يجتازونه بأنفسهم، في أوطانهم، وأن يشبعوا الجو الثقافي المحلي بمن يتحدثون ويفكرون بلغتهم ويتذوقون وينتقدون ويدرسون، ثم ليتركوا العالمية تأتي، وهي تأتي إذا لم يشوهها من يرحلون لها بكل وسيلة، ويدفعون من أجلها الكثير.
العالمية لا يمكن أن تكون حقيقية دون تشبع محلي صادق، وكثير ممن حولنا عرفنا عنهم في وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنا نجهل حقيقة أعمالهم، ونسمع عن حضورهم في مقابلات، ونسمع عن أحلامهم، وطموحاتهم، أكثر مما نعرف عن أعمالهم.
هل يقع هذا بسبب ثقافة العصر التقني السريع، ونقص القراءة، وخصوصية الإبداع، أو بعدم تغور النقد وجديته في تناول الأعمال الفنية، أو المجاملات التي تفقد الطريق للحقيقة؟
ربما، وربما أننا تعودنا على ثقافة الترديد، والمجاملات والكذب على الذات، ما يجعلها صورة تمر، مرور الكرام، ودون أن تشبع عطش الذائقة المحلية، وبالتالي، فلا فرصة حقيقية لديها لإشباع ذائقة الباحثين في العالم عن أي طيف إبداعي مختلف مميز يستحق أن يتعنوا للوصول إليه.