د.عبدالإله موسى بن سوداء
يُعد النظام الأسري ذا أثرٍ بالغٍ في رَسْم أدوار المرأة الحياتية، وتهيئتها نفسياً لتقبّل هذه الأدوار، ناهيك بالإعلام والتعليم المدرسي وتأثير الأقران؛ فهذه العوامل تشترك مع الأسرة في فاعلية التأثير، وهو تأثيرٌ يُسْهِمُ بحظٍ وافرٍ في التنشئة الاجتماعية للجنسين: الذكر والأنثى، ويَدْفَعهما دَفْعاً نحو تأدية أدوارهما المرسومة بحسب منطلقات الأسرة والإعلام والتعليم المدرسي وتأثير الأقران، وقد لا تتفق المعايير التربوية الأسرية مع المعايير التربوية الإعلامية والمدرسية في التنشئة الاجتماعية؛ فينشأ عن ذلك ارتباكٌ وتناقض سلوكي لدى الناشئة، وربما تَـمَـرُّدٌ يُخَلْخِلُ ثَقَافَةَ السائدِ، ويُحْدِثُ بلبلةً في المجتمع.
ولاريب أن الشخصيات القصصية تُعَدُّ معيناً ثرّاً يمكن من خلالها أن يَستجلي قارئُ الروايةِ المفاهيمَ المتعلقة بالتنشئة الاجتماعية الجندرية، ولعل أنموذج (هذلا) في رواية «قنص» لعواض شاهر يُمثل تمثيلاً جيداً هذه الناحية، فـ(هذلا) فتاة صغيرة تترعرع في كنف أبوين يعيشان في الصحراء، ويُعْنَيانِ بعادات هذه البيئة وتقاليدها أيما عناية، ومِنْ ذلك وجوب حماية الفتيات الأبكار من أخطار خسارتهن للبكارة، حيث تتمثل في السرد شخصيةٌ عجائبية وهي (الدربيل)، تلك الشخصية المفزعة لسكان الصحراء، المهددةُ لعُذريةِ فتياتهم، وللشرفِ والسُّمْعة.
إن (هذلا) تنشأ في البيئة الصحراوية نشأة الخوف من أنْ تُخْطَفَ وتَفْقِدَ غشاء بكارتها، حيث فقدان غشاء البكارة في ثقافةِ أهل الوَبَر يُعَدُّ من أعظم المصائب التي يُمْنَى بها النظامُ الأسري، حتى لو كان فقدانها له وَقعَ رَغْماً عنها ودون تفريطٍ منها، وبهذا يُفْهَمُ لماذا يصرُّ والدا (هذلا) على تزويجها سَريعاً وهي ما زالتْ بَعْدُ فتاةً صغيرة، فالخوف من وقوع مصيبةِ تَمزِّق الغشاء هو السبب الرئيس في هذا الإصرار. وعند تأمّل الفضاء الدلالي لوجود كائنٍ أسطوري عجائبي كـ(الدربيل) ؛ نَجِدُ أنّ هذه الشخصية تَنجح في تمثيل مخاوف النظام الأسري في مجتمع الصحراء تُجاه الفتيات الصغيرات، الأمر الذي يُحوّلُ السردَ إلى أسلوب سُخريةٍ مِن هذه المخاوف، حيث يراها وَهْماً يسيطر على شريحةٍ مجتمعية غَلَبَ عليها الجهلُ والتعصب للعنصر الذكوري.
إذن؛ فالنظام الأسري في مجتمع (هذلا) يُسارعُ في التخلص من الفتيات الصغيرات عبر تزويجهن؛ نظراً لكون الفتاة عبئاً قد يجلب الفضيحة والعار إذا بقيتْ مدةً طويلة دون زواجٍ، وهذه المخاوف المتوهمة قد تجعل الأبَ يزوج ابنتَه أيةَ زيجةٍ دون مشاورةٍ لها أو اعتبارٍ لفوارق السن بينها وبين زوجها، المهم أنْ يَتخلص منها، وهو عَيْنُ ما جرى لـ(هذلا).
إنّ ثقافةَ المجتمع الصحراوي الذي تصوره رواية «قنص» تدفع بأفراده إلى أنْ يُربوا الفتيات منذ الصغر ويَزْرَعُوا في وَعْيِهِنّ أنّ الزواج سِتْرٌ لهن، وأنهن عورات في بيوت أهلهن حتى يَتزوجن، وأنّ أدوارهن الاجتماعية تتوقف عند الزواج وتبعاته فحسب، وصورةُ (هذلا) تَمَثَّلَتْ على هذا النحو، إذْ يَتَفَتَّقُ وعيُها في نَشْأَتِها على الخوف من (الدربيل)، فتتهيّأُ نَفْسُها لتقبّل أي لوازم اجتماعية تقيها شره وغائلته، حتى لو كانَ هذا اللازمُ في غير صالحها، ولا تَجِدُ والدتُها صعوبةً في إقناعها بقبول الزواج من (نويشر) الهَرِم، على اعتبار أنه اللازم الاجتماعي لستر عورة العائلة عامةً، والفتاة (هذلا) على وجه الخصوص، وللاحتماء بالرجل، أيِّ رجلٍ، حتى لو كان هَرِماً مُسِناً كـ(نويشر).
وفضلاً عن الخوف الذي يزرعه مجتمعُ الصحراء في نفوس الفتيات من الدربيل/فَقْد العُذرية؛ فإنه يُكَرِّسُ في شعورهنّ أنّ الذكورةَ خَيرٌ وقوةٌ ونَجاة، والأنوثةَ شرٌ وهلاكٌ وضَعف؛ فوالدُ (هذلا) عندما رآها في طفولتها تَلبَسُ ثيابَ طفلٍ اسمه (ناشي) اتسعتْ عيناه فَرَحَاً، وأخَذَ يُقَبِّلُّ خديها، وهو ما جَعَلها تتعمد تكرار هذا اللبس حتى يتكرر من والدها هذا الشعور الجميل تجاهها حين يراها في زي ذَكَر، وما تزالُ صورةُ اتساع عيني والدها مرتسمةً في مخيلتها حتى تشب فتتمنى أنْ لو خُلِقَتْ رجلاً، وتتمثل بأبياتٍ باللهجة المحلية للبيئة الصحراوية في الجزيرة العربية، قالتْها امرأةٌ مثلها تماماً في هذا النوع من التمني، ويُرصَدُ في مضامين هذه الأبيات (العامية) إشادةٌ بالأدوار الجندرية لرجال البادية، وهي أدوار جليلة وذاتُ قَدْرٍ في مجتمع الصحراء، تَجْعَلُ من النساء المحبوسات بأنوثتهن عن تأديتها يتمنين التَّحَوّل من جنس الأنوثة إلى جنس الذكورة؛ لأن أدوار الرجل في هذا المجتمع تتمحور -كما في الأبيات- حول معاني النجدة والشجاعة والفروسية والشهامة؛ فالرجل يغزو ويَركَب الهجن(الإبل) سريعة السير، ويَحْرسُ رفاقَه أثناء ذلك إذا ناموا تحت أشجار السرح، ويقتسم معهم الغنائم إلخ، ولا ريب أنها أدوارٌ حياتية تُكْسِب الرجلَ مآثرَ تُذْكَرُ له، وتُشعره بكثيرٍ من الشموخ والعِزّة بمقياس مجتمع البادية الذي تصوره الرواية، بينما تكون المرأةُ في الضد تماماً؛ إذْ لا مآثِر تُذكَر لها؛ نظراً لدنو أدوارها الحياتية المنوطة بها في مقياس مجتمعها الذي تصوره الرواية، وبناءً على هذا يَسوغ لـ(هذلا) أنْ تستجيب دون ترددٍ لطلب أبيها وهو التّنكر بزي فتىً، وقد تكون (هذلا) معذورةً في تنكرها، ولكن لا عُذر لمجتمعها- كما يتمثّل في السرد- الذي جعل الأنوثةَ عاراً يجب إخفاؤها عن الأعين لكيلا تجلب الفضيحة.
ومن الملحوظ أنّ الروايةَ تُعنى عنايةً فائقة بتصوير حياة أهل الصحراء في الجزيرة العربية إبان القرن الماضي، وهي في تصويرها هذا تَربِطُ ما بين تلك الحياة الغابرة وما تبقى منها من آثارٍ في الحياة المعاصرة، وقد تَبَيّنَ مما سبق أن المجتمع الصحراوي الذي تصوره الرواية لا يكتفي بتمجيد العنصر الذكوري وإعلاء أدواره الحياتية على حساب العنصر الأنثوي فحسْب، بل يُحَوِّلُ الأنوثة المحتقَرَة والمَعِيبة إلى ذكورةٍ مُزَوَّرَة عَبْرَ تغيير خَلْق الله وخِلْقته، ورغم كونها ذكورةً مزورة إلا أنها أحسنُ حالاً من الأنوثة/العورة التي هي كالثغرة العزلاء في نظر والديها والقريبين منها، الأمر الذي يؤثر في وجدان الفتيات الصغار فيكبرن وهن يشعرن بالعار لأنوثتهن، ويتمنين أنْ لو كُنّ رجالاً كما تمنتْ (هذلا).
إذن؛ فمجتمع (هذلا) –كما يَتَمَثَّلُ في السرد- يُنمّي في فتياته شعورَ العار من الأنوثة، ويُهَمِّشُ أدوارهنَّ المنوطة بهن: الإنجاب والتربية، ويَحْتَكِرُ جلالةَ الأدوار الاجتماعية المتمثلة في: الفروسية والشهامة واقتسام الغنائم وإكرام الضيوف، وامتلاك الماشية، وإغاثة الملهوف إلخ - للرجل، بينما تظل المرأةُ أسيرةَ ضعفها وخوفها من (الدربيل)، في دورٍ لا تتعدى فيه الإنجابَ ومسؤولياته، وهو دورٌ حياتيٌ مُحْتَقَر بمقياس مجتمعها/المجتمعِ الصحراوي، ويَشِفُّ عن نَسَقٍ ثقافي يتضمن الرغبةَ في إخفاء المرأة عن الأنظار/إخفاءِ المرأة في بيت زوجها/إخفاءِ المرأة في قَبرها.