د. محمد بن عبد الله المشوح
الوقفة الأولى: النبوغ والبروز
يقول الدكتور مُحَمَّد الهدلق: «وكان أبناء الحيّ الذي كنَّا نعيش فيه يلعبون في الشَّوارع أنواعًا من اللَّعب كما هي عادة الصَّبيان في كلِّ حيِّ وفي كلِّ زمن، لكنَّني ما كنت أرى أبا عبدالرحمن يشاركهم اللَّعب إلا لمامًا، كنت كثيرًا ما أراه خارجًا من منزله أو داخلًا إليه وهو يحمل كتبًا.
وكان ممَّا يثير استغرابي رؤيتي إياه متأبطًا يدي شيخين متقدِّمين في السِّنِّ، مكفوفي البصر تربطهما بوالده صداقة ومودة، ثم عرفت لاحقًا أنَّهما يرويان الكثير من الأخبار والقصص والنَّوادر، التي كان أبو عبدالرَّحمن يُدوِّنها.. منها ما يضحك الثَّكلى!».
ثمَّ على مقاعد الدَّرس في معهد شقراء العلمي عام (1379هـ) وفي الصَّف الثَّاني متوسِّط يقول صديقه وزميله في الدِّراسة مُحَمَّد بن عبدالرَّحمن الثنيان: «كان أبو عبدالرَّحمن بجواري يقرأ في كتاب ويلخَّصه، وهو في الوقت ذاته يستمع إلى المدرس ويعي ويدرك ما يقول، اغتاظ المعلم من هذا التَّصرف فاشتكاه إلى مدير المعهد عثمان ابن سيّار وقال إنَّ هذا الطَّالب منشغل ويشغل الآخرين، فقال الطَّالب: يسألني في مادته وإذا ما جاوبت أكون مخطئًا، فأجازه مدير المعهد وصفح عنه». لقد كان هذا الموقف هو الكاشفة لحياة هذا الفتى المشاكس شبابًا وكهولة.
احتار وتشاكس وأخطأ النَّاس في اسمه ووسمه وتركيبته، حيث جمع فيه ما لم يُجمع، يقول د. عبدالله الغذامي: «الاسم يتشكل من عقدة ثقافيَّة وكأنها ألغاز؛ فهو لا يمت لمعهود الأسماء الصّحفيَّة، ولا لمنظومة الصّيغ المرمَّزة التي تعوَّد النَّاس ظهورها لكُتَّاب وكاتبات لا يودُّون إظهار أسمائهم الحقيقيَّة، ثمَّ إنَّ الاسم هذا هو من صناعة صاحبه، والمعتاد عرفيًّا أنَّ الأسماء هي من تشفع لأصحابها، كأن يكون الاسم فئويًا أو طبقيًّا أو وظيفيًّا، أو مصحوبًا بلقب علميٍّ أو رتبة رسميَّة، والبعض كان يأخذ اسمًا نسويًّا يساعد على لفت النَّظر، ويتبع حال الدَّهشة هنا أن الاسم المختار يجمع بين قطبين متنافسين دلاليًّا، فهو «أبو» و»ابن» في آن واحد، وهو منحاز فكريًّا لمدرسة فقهيَّة لها مرجعيَّات عاليَّة الجدليَّة، وابن حزم الظَّاهريّ ظلَّ علامة على الجمع بين المعاني المتضاربة، وبعضها يتنافر في نظر كثير من الفقهاء قديمًا وحديثًا، وهذا ما حدث مع شخصيَّة أبي عبدالرَّحمن الظَّاهريّ».
ويقول عنه صديقه معالي الدُّكتور غازي القصيبي: «إنِّي أُشْهِدُ اللهَ، وأُشهد القُرَّاءَ: أَنَّي أَعدُّ أبا عبدالرَّحمن: لطيفَ القولِ، بسيِطَ الطولِ، حسنَ المأْخذِ، دقيقَ المنفذِ، متمكِّنَ البيانِ، مرهفَ اللِّسانِ، جليلَ الحلمِ، واسعَ العلمِ، قليلَ المخالفةِ، عظيمَ المساعفةِ، ثابتَ القريحةِ، مبذولَ النَّصيحةِ، مستيقنَ الوِدادِ، سهلَ الانقيادِ، صادقَ اللَّهجةِ، خفيفَ المهجةِ.. وأبو عبدالرَّحمن يَعْرِفُ من أين نقلتُ هذا النص.. وأمَّا الذين لا يعرفون فأتركهم مع هذا اللُّغز».
وصفه الوزير السُّعودي الرَّاحل، الدكتور عبدالعزيز الخويطر، بعباراتٍ عميقة الدَّلالة: «أبو عبد الرَّحمن بن عقيل كاتب ذو أسلوب جذَّاب، وفكر عميق، وآراء متجدِّدة، مع عمق في البحث، ومتابعة مستمرة، يفاجئك بالخروج عن المألوف، ويضعك في موقع تحمده، وتقول: كيف لم أتنبه لهذا، يسير في أحاديثه على سجيّته، لا يتكلَّف، واستطراده مقبول، بل ومقدر».
العلاَّمة أبو عبدالرَّحمن بن عقيل الظَّاهريّ -حَفِظَهُ اللهُ- علاقاته واسعة، ووده ممدود، ومعاركه ومناكفاته لا تنتهي، واعتذاره مشرع، ونقده لاذع، ودمعته عجلى، وقلمه سيّال، ومشاريعه متوقِّفة، إنَّه كل وجميع هذه وتلك المتناقضات.
الوقفة الثانية: الرَّحيم الموجع
خاض شيخنا أبو عبدالرَّحمن معارك ثقافيَّة وعلميَّة وأدبيَّة عديدة ظلَّت محركًا للمشهد، تنفخ فيه الرُّوح، وتُشعِل فيه النشاط، فاستثار علماء وأدباء، واستثاره آخرون، فكان غاية العجب في ذلك، يستل سيوفه من أغمادها، ويرمي رماحه بكل قوة وجرأة فيدمي ويوجع ويؤلم، لكنَّه سرعان ما يعاجل خصمه بسماحته واعتذاره وأسفه وندمه، وكم سالت دموعه على خصومة جرت، أو مقالة أسرف فيها على صاحبه، إنَّه خليطٌ نادرٌ عجيب من الشَّفقة والرَّحمة، والشِّدة والغلطة، واللِّين واليُسر.
سمعت شيخنا الشَّيخ صالح آل الشَّيخ -حفظه الله- يقول: «إنَّ لدى أبي عبدالرَّحمن من اليقين بالله والإيمان الذي تقرأه في حروفه ما تمنَّيتُ أن يقرأه الجميع بلا استثناء».
الوقفة الثالثة: النشر عناق ثم افتراق
في عام (1415هـ) فتح الله قلب شيخنا أبي عبدالرَّحمن بن عقيل الظَّاهريّ لعالَم النَّشر، وكانت دار ابن حزم في الرِّياض، الَّتي تأسَّست لخدمة تراث ومؤلَّفات وأعمال الشَّيخ.
فنهضت هذه الدَّار بسرعة، وقامت وتدلَّت أغصانها من كلِّ النَّواحي، فصار مجموع ما صدر من عناوين عن دار ابن حزم ما يقرب من تسعين عنوانًا، غالبها وأكثرها لشيخنا أبي عبدالرَّحمن بن عقيل الظَّاهريّ، ولمؤلِّفين آخرين، وكان من أهمِّ ما صدر «كيف يموت العشَّاق»، و»ليلة في قاردن ستي»، «شيء من التَّباريح من أحكام الدِّيانة»، «آل إبراهيم الفضليُّون» وغيرها كثير.
لم تكن علاقة أبي عبدالرَّحمن بن عقيل الظَّاهريّ مع عالَم النَّشر علاقة وديَّة مستمرَّة، لكنَّها أثمرت هذا النَّتاج الغزير والكبير من الإصدارات والمؤلَّفات.
وفي عام (1437هـ) حانت ساعة الفِراق والإغلاق، وانسحبت دار ابن حزم من سوق وعالم النَّشر لتعلن إغلاقَها، متزامنةً مع العديد من دور النَّشر الَّتي توارت وانسحبت من السُّوق.
لقد كانت دار ابن حزم أحد المنارات العلميَّة الكبرى في الرِّياض، وظلَّت لأكثر من عشرين عامًا، تُقدِّم وتُثمر لطلبة العلم وللمثقَّفين المؤلَّفات الرَّصينة، والكتابات الَّتي يحفل بها القارئ لشيخنا أبي عبدالرَّحمن بن عقيل الظَّاهريّ.
ومن لطائف هذه الدَّار والمكتبة أنَّه كان يُعرض فيها حتَّى بعض مقتنيات الشَّيخ في مكتبته.
حدَّثني شيخنا الشَّيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشَّيخ قائلًا: «إنَّني في عام (1420هـ) حدَّثني أحد الإخوة بأنَّ دار ابن حزم لديها بعض النَّوادر من الكتب والطَّبعات».
يقول الشَّيخ صالح: «فقمت بزيارة لها في موقعها في العليَّا، ولمَّا دخلت المكتبة وجدت كتبًا متعدِّدة العناوين، وفيها طبعات قديمة وتعليقات على بعض صفحاتها، فسلَّم عليَّ الأخ المسؤول في المكتبة وقال: عرفتك، أأنت الشَّيخ صالح؟، فقلت نعم. فتجوَّلت في المكتبة، وطالعت ونظرت في الكتب، فقال لي: هل أعجبك شيء منها؟، قلت: أعجبني، لكنِّي لا أريد أن أشتري. قال: لماذا؟، قلت: لأنَّ الأسعار رخيصة جدًّا، ولا تليق بالكتب، فهذه يجب أن تُرفع أسعارها. وقلت له: إنَّ هذه الكتب أنا أعرفها، وأعرف أقيامها، خصوصًا ما عليها من تعليقات، وعليكم أن تراجعوا الشَّيخ أبا عبدالرَّحمن بأنَّ هذه الأسعار يجب أن تزيد إلى الضِّعف».
يقول الشَّيخ صالح: « لم أكتفِ بذلك، بل إنَّني أرسلت أحد الإخوة إلى أبي عبدالرَّحمن بن عقيل، وحمَّلته رسالة وقلت له: هذه الكتب الَّتي تُباع، هل هي تباع من عندك من حاجة، أم هي فائض من الكتب لا ترغب بقاءه عندك؟، فإن كانت الأولى فحاجتك عندي، أما الأخرى فلا».
يقول: «إنَّه رجع إليَّ الشَّخص وقال: إنَّ الشَّيخ أبا عبدالرَّحمن يُبلِغك السَّلام، ويقول: لا حاجة لي بهذه الكتب؛ لأنَّها مكرَّرات عندي وزوائد، وأشياء قرأتها، ولست بحاجة إلى بقائها عندي في مكتبي».
يقول الشَّيخ صالح: «قلت له: الحمد لله، وانتهينا إلى هذا الأمر، ثم رجعت إلى المكتبة واشتريت بعض الأشياء منها حسب الأسعار الَّتي تمَّ تعديل جزء يسير منها».
لقد كان الشَّيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشَّيخ أحد الشَّخصيَّات الَّتي بُهرت بالإعجاب بأبي عبدالرَّحمن بن عقيل الظَّاهريّ أسوة بعلماء وأدباء ومثقَّفين، بهرتهم هذه الشَّخصيَّة بتميُّزه ونتاجه وغزارته وتنوُّعه ودقَّته الَّتي يعرفها الجميع.
والشَّيخ أبو عبدالرَّحمن بن عقيل الظَّاهريّ له قصص مع مكتبته، فقد باع جزءًا من مكتبته في وقت سابق، وليس بغريب أن تُباع هذه الأجزاء منها في دار ابن حزم آنذاك، كما يروي الشَّيخ صالح آل الشَّيخ.
لقد خسر عالم النَّشر أحد الشَّخصيَّات البارزة الَّتي تضفي على عالم النَّشر القوَّة والرَّصانة والمتانة العلميَّة والمعرفة والإدراك، وحسبك أن يكون صاحب النَّشر والمشرف عليه والقائم به عالم وقارئ وكاتب ومؤلِّف مثل أبي عبدالرَّحمن.
وإنَّني أندب حظَّنا كناشرين أن خسرنا هذا العالِم الجليل من ساحتنا، لكنَّه بقي يكرُّ ويفرُّ في عالمه الفسيح الَّذي لا يغادره ولا يملّ منه، وهو عالم التَّأليف والتَّدوين والكتاب.
الوقفة الرَّابعة: لقاء الكبار
زار أبو عبدالرَّحمن -حَفِظَهُ اللهُ- شيخنا الرَّاحل العلاّمة مُحَمَّد بن ناصر العبودي -رَحِمَهُ اللهُ-، عام 1436 هـ وكان اللِّقاء كالعادة مع غيره لا يتجاوز السَّاعة أو دونها، لكن كان على غير العادة فامتد إلى العاشرة ليلًا.
تجاوز الحديث الخاصّ بينهما أربع ساعات ونصف الساعة استعادا فيه ذكريات ومواقف وأحداثًا، وتبادلا همومًا ومشتركات، وكلٌّ منهما مستمتع بحديث الآخر.
أسفر اللِّقاء بينهما خطابًا مكتوبًا يطلبان فيه من وزير الثَّقافة والإعلام آنذاك دعم المؤلف السُّعودي عن طريق شراء الكتاب وتوزيعه ونشره، وكنت قد أوصلت الخطاب والطَّلب إلى مكتب الوزير متضمِّنًا طلبهما المستحقّ اللَّطيف والطَّريف أنَّ «العبودي وابن عقيل» يمثِّلان القوَّتين الأكبر ثقافيًّا؛ حيث يتصدَّران المشهد السُّعودي بلا منافس في كثرة وغزارة وتنوُّع إنتاجهما الفكريّ والأدبيّ والثَّقافيّ.
الوقفة الخامسة: الخلاف والاختلاف
حظيت كتابات أبي عبدالرَّحمن بالدِّراسة والنَّقد من قبل الباحثين، وما زالت فيها مكامن كبرى لأيِّ باحث أو دارس، وعلى الرُّغم من القبول والإعجاب الذي حظيت به مقالاته وكتبه ودراساته وبحوثه إلَّا أنَّ هناك من أقرانه بل حتَّى من تلاميذه من صارح أبي عبدالرَّحمن باللَّغة ذاتها والمفردة الصَّريحة الَّتي ينتقد بها الآخرين.
ومن البيان المكشوف ما كتبه تلميذه والآخذ عنه ومن علمه الأخ عبدالله الهدلق في كتابه الشهير «ميراث الصمت والملكوت»؛ حيث نقد تباريح التَّباريح نقدًا لطيفًا مؤدَّبًا مع شيخه فقال: إنِّي حين أغوص في أغوار سريرة الشَّيخ، أجد ثمة تلاطمًا وصخبًا، بل وضبابيَّة تحول دون بلوغ الهدف في كثير من الأحيان، وذلك من خلال ما أستشفّه من آثاره.
فهنالك أمران اثنان يتنازعان الشَّيخ؛
أولها: هو ظريف تستخفُّه المُلحة فينطلق على سجيته فإذا هو غامر لامز، أو ضاحك مقهقه، ثمَّ لا يلبث حتَّى يطأطئ رأسه على استحياء، لأنَّ للعلم وقاره وما أثقل تبعات العلم، ولكنَّه يعود مهما حاول قسر نفسه فالطَّبع دون التَّطبع.
ثمَّ إنَّ الشَّيخ ذو روح صهرتها شمس بودلير الحارقة، فذاقت شجن الحب ولوعته، وعرفت أسرار الهوى وغموضه، فرقت حاشيته، وتهذبت على ترانيم أنات الجوى، إنَّ ثمَّة قليلًا من النَّاس يتلمَّسون طريقهم في الظَّلام ليصلوا إلى النُّور، لقد كان الشَّيخ واحدًا من أولئك النَّفر القلائل!.
وأمَّا ثاني هذين الأمرين اللَّذين يتنازعانه: فهو خوف من الله، بسببٍ من حسن النَّشأة، يصدُّه ويردعه إن هو تجاوز القصد، ويمسكه فلا ينطلق فهو كالحصان الَّذي يدور حول مربطه، إنَّها الكلمات الَّتي تترسب في أعماقنا غِبِّ زمن اليفاعة، يخيَّل للمرء أنَّه نسيها أو هو يتناساها، فإذا ما اتَّقد هجير عمره لم يجد ظلالًا غيرها تظلِّلُه وتحميه.
الوقفة السادسة: ابتهال وتضرع.. «ابن عقيل يرثي وينعي نفسه»:
كتب شيخنا مقالة في صحيفة الجزيرة عام (2018م) يقول فيه: «إلهي امنحني فضلة من العمر تُبددُ مخاوفي من سالفته، ولا تأخذني إليك إلا وأنا مشتاق للقائك، وأعذني من عذاب القبر ووحشته، ومن خزي الدُّنيا وعذاب الآخرة؛ لأضمن بذلك السَّلامة من أطباق نيرانك؛ فإنَّك تعلم أنَّ عبدك من أضعف جندك في هذه الفانية.. وامنحني من لذَّة خُلدك ما يُمتِّعني بلذة النَّظر إلى وجهك الكريم؛ فإنَّ ذلك يوم التَّغابن، وأنت تعلم أنَّ عبدك الضَّعيف عاجزٌ عن تحمُّل الغبن في أعراض الدُّنيا.
إلهي إنَّ من لطفك بي أن برأتني في مدينة بين جيل من العوام الصَّالحين يخفُون إلى بيوت عبادتك، ويُحيون مواسم نفحاتك، وكان عبدك الضَّعيف لبنة في صُفوفهم على علَّاته؛ وذلك بمسجد الحُسيني الذي يقوم أخوالي وأعمامي بسدانته في شقراء -عمرها الله بالإيمان وصدق القول والعمل-؛ فما يدريني لعلَّها غشيتني رحمتُك لهم وأنا في بداية الحلم، وفي أول أُويقات التَّكليف؛ فما كان يومها ثمَّة أهواء تغمس قلوبنا، ولا فلسفات تلوِّث عقولنا.. ولقد مرَّ بي برهة من الدَّهر وأنا أقول: (أحمد الله أنَّني لم أرتكب ذلك الذَّنب).. ثم صرت أقول: «لئن ارتكبت كيت وكيت، أنا لم أرتكب كيت وكيت».
إلى أن قال أبو عبدالرَّحمن: «أرجو من إخواني وأحبائي إذا وُسِّدتُ في قبري: ألَّا يجعلوا تعزية أهلي وأقاربي نُزهة أدبيَّة تستعرض ما يرون أنَّه من إبداعي الفكريّ والأدبيّ والعاطفيّ؛ بل أرجو أن يدعون لي، ويشيِّعوني في قبري، ويصلُّون عليَّ في المسجد ويدعون لي في المقبرة، ولا يمدحونني البتة؛ فيا الله اجعلني خيرًا ممَّا يعلمون، واغفر لي ما لا يعلمون؛ وإنَّما عليهم -جزاهم الله خيرًا- أن يقولوا: اللَّهم اغفر لمُحَمَّد بن عمر بن عقيل ذنوبه، وبارك له في حسناته، وتجاوز عن سيئاته، ولا نعلم عنه إلَّا الخير، ومساعدة المحتاجين؛ فيقولُ الرَّبُ، أو ملائكتُه عليهم سلام الله وبركاتُه: (وجبت)، أي الجنةُ. كما قال رسول الله: (أثنيتُم عليه خيرًا فقلت: وجبت.. وأثنيتم على الآخر شرًا فقلتُ: وجبت.. أي النار) -أعاذنا الله منها-، ورحم الله والديكم لا تجعلوا ما بدر منِّي من طفرات أدبيَّة أو فكريَّة أو عاطفيَّة حجَّة لكم في التَّجاوز، وأرجو ألَّا تكون الأيَّامُ الثَّلاثة من يوم وفاتي أيَّام عيد وذبائح؛ فخير من ذلك الدُّعاءُ لا غير.. لا إله إلَّا أنت يا ربي سبحانك إنِّي كنت من الظَّالمين، لئن لم يغفر لنا ربنا ويرحمنا لنكوننَّ من الخاسرين، الحمد لله بدءًا وعودًا، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين» انتهى كلامه.
وختامًا يقول بول فاليري: «يقول الرَّجل العظيم هو من يترك الآخرين في حيرة بعد وفاته».
وأقول: كيف وقد تركنا أبو عبدالرَّحمن في حيرة منه وعنه وفيه وهو في حياته!!.
الوقفة السابعة: المبهر الاستثناء
حين نحكي يُنْصتُ الصُّبحُ لنا
ويردُّ اللَّيل شيئاً من صدانا
ليست الحالات الثقافية الاستثنائية كثيرة لأنها استثناء، وهذا الاستثناء له صوره وألوانه وأشكاله المتعددة في مشهدنا وعالمنا ومحيطنا.
وإذا كنا ننظر إلى تلك الحالات بصفتها وما امتازت به في مساراتها العلمية والإبداعية أو حتى الشخصية، فإن المحتفى به الليلة جمع ذلك كله. فلا أعلم أحدًا في عصرنا كتب وألَّف ودرَّس وحاضر في التفسير وعلوم القرآن والعقيدة والفقه والحديث وأصول الفقه والفلسفة والتاريخ والبلدانيات والأنساب والأدب واللغة وكتب الشعر كذلك مثل شيخنا المحتفى به حفظه الله,
لقد درج وتعلم ودرّس في حلقات العلم ثم ارتحل إلى الرياض فالتحق بحلقات العلم ورافق وصاحب ولازم العلماء أمثال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز وسماحة الشيخ عبدالله بن حميد والمشايخ عبدالرزاق عفيفي وصالح بن غصون وصار له ومع غيرهم مجالسات ومطارحات ومصارحات دوّن ونشر بعضها في تباريحه ومقالاته عن سيرته
ومن عجائب وملامح حياته أنه صدر وولد وترعرع في كنف ودائرة العلماء وطلبة العلم فارتدى عباءتهم وارتوى من معينهم لكنه في الوقت ذاته فتح مسارات أخرى في حياته فدرس الفلسفة وتعلَّم المنطق وناقش النظريات وخاض في علم الوجود وناظر فيه.
كما قرأ في علوم الموسيقى وآلاتها وأصواتها، والتقى محمد عبدالوهاب والسنباطي وبليغ حمدي وسيّد دوريش، وحفظ كلمات أم كلثوم، وكتب كتاباً عن أم الوليد نجاة الصغيرة وكتب مقالات عديدة عن الأصوات والطبقات والقراء للقرآن الكريم وطريقتهم وأوجه الخلاف فيها ومدارس القراء.
لم ينتكس عن طريقته، أو ينقلب على عقبيه، أو يتنكر لمدرسته وشيوخه ومجتمعه، ظل حالة منفردة جمع الأضداد، واجتمعت حوله المختلفات حتى محطات عمله فيها استثناء وغرابة، ففي البلديات العمل ومعهد الإدارة مدرساً، وفي المعهد العالي للقضاء استاذاً حتى أمسى مستشاراً ونديماً لعدد من أصحاب السمو الملكي الأمراء والوزراء كان في قمتهم صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله- حيث أدناه واصطفاه وقرّبه وصار مرجعه في كثير من أموره العلمية ومسائله التاريخية.
لقد شغل الناس في حياته ودرجاته وأشغل العلماء بمناظراته وظاهريته واتفقوا على كونه حالة خاصة في مشهدنا وزماننا حتى إن بعضهم حين جالسه وسمع لطفه وحدبه وأنسه لم يصدق أن هذا هو ابن عقيل المجادل والمحاور
صموتٌ إذا ما الصَّمت زيَّنَ أهلَه
وفتَّاقُ أبكارِ الكلامِ المختَّم
وعى ما وعى القرآن من كلِّ حكمةٍ
ونِيطت له الآداب باللَّحم والدَّمِ
ومن عجائبه التي لا تنقضي في أمور حياته الخاصة والعامة صراحته المتناهية وعدم كلفته في الحديث عن ذاته وبيان مثالبه ونقصه وخطئه، ومن العجب كذلك جوده وكرمه الذي لا يمكن وصفه أو مجاراته وكرمه ليس محدودًا في مأكل أو مطعم أو ضيافة بل حتى في ملبسه ومظهره حسن الهندام لافت الرائحة يغشى أفخم وأجود أنواع الطيب والعطور من دهن العود والورد الطائفي الخالص، ويُهدي من مشترياته ومقتنياته بلا تردد ومثل ذلك في كتبه ومؤلفاته.
إنك لا تدري عن من تتحدث عن مفسر أم لغوي أم نسابة أم بلداني أم فيلسوف أم مؤرخ أم حاتمي البذل والعطاء، إنه خليط من ذلك كله، منحه الله من فواتح العلم وجوامعه ما لم يمنح في عصره أحد سواه فبز أقرانه وفاق شيوخه واعتلى رتبًا من العلم والحفظ والفهم.
إِن قَصَّرَ الجُهدُ عَن إِدراكِ غايَتِهِ
فَأَعذَرُ النَّاسِ مَن أَعطاكَ ما وَجَدا
أَبُو فِرَاسٍ الحَمْدَانِيّ.
متعه الله بالصحة والعافية وختم له بخير.