منذ سنوات سافرت لعدة دول لا تتكلم العربية أو الإنجليزية ولم أتعرّف حينها على تطبيقات الترجمة الحديثة واستطعت وقتها التعايش مع شعوب تلك الدول فترة زياراتي لها وتلبية كل احتياجاتي اليومية والسياحية عن طريق لغة الجسد ولغة الإشارة، فاللغتان متداخلتان وكل البشر يستخدمونهما في حياتهم العادية بيد أن من فقدوا السمع والنطق يستخدمونها بشكل أكثر وبطريقة متطورة تلبي كل متطلباتهم اليومية والإبداعية، وأذكر أني ركبت مع صاحب تكسي وكنا إذا مررنا بمكان جميل يعبر لي عن جمال المنظر بتعابير وجهه الباسمة مع الاندهاش الذي يفتح النفس، ويكون ذلك برفع الحواجب وفتح الفم قليلاً مع دفع الشفتين إلى الأمام، والإشارة بالإبهام إلى أعلى، والتي تعطي انطباعاً أنه يجب التوقف عند هذا المكان والتأمل في تفاصيل جمالياته والتمتع بمناظره الخلابة، وفي حال أراد إفادتي عن المكان الغير مناسب يكون ذلك بتعبيس وجهه بحيث يكون منكمش الوجه مغلقا شفتيه مع إبرازهما قليلا وإمالتهما إلى الأسفل ويشير بإبهامه للأسفل! حينها أتيقن أن المكان لا يستحق الزيارة فنواصل المسير ،وقد نتعجب حين نعلم أن تأثير لغة الجسد في التواصل يصل إلى ما نسبته 55% بينما تأثير المفردات 7% أما نبرات الصوت فيصل تأثيرها إلى 38% حسب الدراسة التي نشرتها صحيفة ديلي ميل البريطانية، ويمكن القول أن لغة الجسد هي لغة عالمية، فالابتسامة تعني التعجب وقد تعني الرضا، وقد تعنى التحية ويفهم ذلك تلقائيا من الحدث، أما لغة العيون فتعني الكثير من المعاني والمشاعر وعبر عن ذلك الشاعر سعد بن محمد الشهير بـ(حيص بيص) المتوفى عام1179 حيث أبدع حين قال:
العَيْنُ تُبْدي الذي في قَلْبِ صاحبِها
مِن الشَّناءَةِ أوْ حُبٍّ إذا كانا
إنَّ البَغيضَ لهُ عينٌ تُكَشِّفُهُ
لا تَسْتطيعُ لما في القلْبِ كِتْمانا
فالعينُ تَنْطِقُ والأفْواهُ صامِتَةٌ
حتى تَرى منْ ضَميرِ القلبِ تِبْيانا
وأبدع جرير في البيت الشهير حين قال:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيينا قتلنا
لذلك تأتي بعض النظرات موجعة ومهيبة وبعضها عاشقة سارقة للقلوب وبعضها حزينة، فحتى الطفل الذي لم يزل في المهد لديه مقدرة على قراءة لغة الجسد فحينما تعبّس في وجهه يتأثر وقد تتناثر دموعه وحينما تبتسم يبتسم ويشعرك بالراحة وفي حال كان يتألم يعبر عن ذلك بحركات جسمه ويديه ووجه حتى لو لم يبك، وقد تقرأ أمه من تحركاته نوع الألم الذي يعاني منه، وحينما تقوم بحركات فكاهية ربما يقهقه.
والإيماءة عند الكبار بالرأس بمعنى الرفض أو الإيجاب أو التحية أو الإشارة إلى مكان ما، وقد تتضح الصورة بشكل أفضل حين تتخيل إذا دخلت منزلك واستقبلتك زوجتك وجلست معها في صالة البيت أمامك دلة قهوة وقليل من المنصوف تمرا وبلحا، وتتبادلان الحديث دون أن تحركا أيديكما ولم تتبسما ولم تُظهرا تعبيرات الوجه لبعضكما ولا العيون ولا الشفاه، ماذا سيكون وضعكم؟
بالتأكيد لن تفهما بعضا فقط في الكلام فالتواصل بينكما ناقص ومن يراكما يظن أن لديكما خللا..
ومثله المعلم حين يقف أمام طلابه ليشرح الدرس دون أن يستخدم الإيماءات وإشارات العيون وغيرها من تفاصيل لغة الجسد سيكون شرحه باهتاً
ويتساءل الكثير عن لغة الإنسان الأول
وكيف كانت لغة الحوار بينهم فمن المؤكد أن لغة الجسد كانت هي اللغة الأكثر استخداما بين البشر آنذاك بالإضافة إلى اللغة التي اشتقوها من الطبيعة
وهناك ما يُسمى بعلم الفراسة وهو يعتمد جزئيا على لغة الجسد فيستطيع المحقق قراءة تعابير وجه المتهم، فينظر في عينيه وشفتيه وحاجبيه ليستنتج معلومة تثبت براءة أو إدانة المتهم ،وتطور علم الفراسة في العصر الحديث وصار يدرس في الجامعات باسم علم الجريمة.
** **
- صالح بن سليمان الربيعان