د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
ولدت النيوليبرالية في زمن ثورة ريجان وتاتشر التي تم فيها خفض الضرائب وسحق النقابات، وتحرير الأسواق من القيود التنظيمية من أجل إطلاق العنان للرأسمالية العالمية، لكن هذا النظام خدم دولاً أخرى على حساب الولايات المتحدة، وبشكل خاص الصين وألمانيا، لكن أزمة الطاقة سرعان ما سرّعت عالماً لما بعد النيوليبرالية، يسمى بالوطنية الاقتصادية، وهو مبدأ العمل لكلا جانبي الانقسام السياسي في واشنطن، وكان روبرت لايتهايزر الممثل التجاري في عهد ترمب كان من مشجعي التخلص من العجز التجاري الأمريكي، ودعا رو خانا نائب الكونغرس من الحزب الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا إلى الأمر نفسه مؤيداً تحقيق فائض تجاري أمريكي في عام 2035، بعد عجز تجاري تعاني منه الولايات المتحدة منذ عام 1975، ما جعله يطلق مبادرة إعادة تصور الاقتصاد، وهي مبادرة أطلقتها كلية كنيدي في جامعة هارفارد تهدف إلى استبدال السياسات النيوليبرالية بشيء جديد، مقابل جامعة شيكاغو التي كانت مركزاً للنيوليبرالية أي أن الجامعات الأمريكية تتنافس لتصبح مركز التفكير الاقتصادي.
هناك عدد من الدول تواجه منحدر النيوليبرالية بسبب أزمة الطاقة التي غيرت كثيراً من أسس النيوليبرالية، وانتقلت إدارة البيت الأبيض إلى مرحلة جديدة لما بعد النيوليبرالية، أي عالم متفكك العولمة، والعودة إلى فرض قيود تنظيمية، وزيادة سيطرة الدولة، وهذا لا يعني التخلي عن قواعد السوق، وتركيز السياسة من التوزيع إلى الإنتاج، أي سياسة صناعية أكبر من ذي قبل بدلاً من تركها للصين تستحوذ عليها، وبذلك تخيير كثير من الشركات متعددة الجنسيات الأمريكية بين الولايات المتحدة والصين، لتوفير فرص عمل للأمريكيين تستعيدها من الصين، بجانب تشديد القواعد المتعلقة بنقل التكنولوجيا للصين، فمثلاً شركة ميكرون ثاني أكبر شركة بعد إنتل تعلن عن استثمار كبير في أشباه الموصلات في الولايات المتحدة بقيمة مائة مليار دولار في مسبك معادن جديد شمال نيويورك.
الدولار القوي قد يصبح رياحاً معاكسة لآمال الإدارة الأمريكية في مجالي التصنيع والتصدير، لكن انخفاض تكلفة مدخلات الطاقة في الولايات المتحدة مقارنة بأوروبا في الوقت الحاضر يمثل قوة دافعة، فأمريكا تبيع الغاز لأوروبا بأربعة أضعاف، وهي غاضبة من السعودية التي تقود أوبك في تخفيض مليوني برميل الذي يرفع أسعار النفط كمدخل في الصناعة، مما يربك خططها في منافسة الصناعات الأوروبية بشكل خاص.
ألمانيا منزعجة من الولايات المتحدة التي ترى أن خطتها للتحول المناخي جعلها تضع شروطاً غير مواتية للشركات الأجنبية، وأن الولايات المتحدة تخاطر بإثارة حرب جمركية هائلة، بعد موافقة بايدن على قانون خفض التضخم وهو أكبر استثمار تم اعتماده على الإطلاق في مجال مكافحة تغير المناخ كونه يخصص 370 مليار دولار لبناء توربينات الرياح والألواح الشمسية والسيارات الكهربائية، منها الإعفاء الضريبي لدى شراء سيارة كهربائية مصنوعة في منشأة أمريكية ومزودة ببطارية منتجة في الولايات المتحدة.
حيث انتقد المستشار الألماني شولتس في اجتماع مع صناعيين ألمان في برلين بقوله سنناقش قانون خفض التضخم بشكل أكبر مع أصدقائنا الأمريكيين، وقال لا ينبغي للسياسيين في بلادهم أن يقولوا نحن الآن نقوم بحماية المناخ أيها الصناعيون، قائلاً هل سمعتم أننا نحميكم من منافسة الآخرين لكم؟، وحذر أن الأمر قد ينتهي بحرب جمركية هائلة إذا لم يكن هناك تعاون دولي بشأن تدابير حماية المناخ والتجارة، باعتبار أن برلين موطناً لعملاقة السيارات مثل فولكسفاجن، وبي إم دبليو، ومرسيدس، فمسؤولون في الاتحاد الأوروبي بقيادة ألمانيا تعارض الإعفاءات الضريبية في الولايات المتحدة على السيارات الكهربائية المحلية والتي ستضر بشكل غير عادل بالسيارات المصنوعة في أماكن أخرى وعلى الخصوص في أوروبا، وهي تنطوي على تمييز، بل تتعرض ألمانيا لنفس الانتقادات بسبب خطتها الكبيرة التي تتضمن تخصيص 200 مليار يورو لمساعدة الأسر والشركات على تحمل فواتير الكهرباء المرتفعة، ويخشى شركاؤها الأوروبيون من أن يؤثر ذلك في فرص المنافسة، ولا سيما في القطاعات كثيفة الاستهلاك.
وبرعاية معهد روزفلت حيث اجتمع السياسيون كثير منهم من داخل إدارة البيت الأبيض لمناقشة تفاصيل السياسة الصناعية الأمريكية، لأنهم لا يزالون يعتبرونها غير واضحة المعالم حتى الآن تماماً، وهو لا يزال يناقض اقتصاد التنقيط الذي اعتمده ترمب عبر منح الشركات الأمريكية التي تستثمر في الخارج عن طريق رشوتهم بعقود حكومية وخفض الضرائب وإعفائها من القوانين، رغم ذلك اعتبر عدد من الاقتصاديين أن اقتصاد التنقيط الذي أراد ترمب اعتماده كان بصبغة شعبية لن ينجح، فلطالما تواصل وول ستريت دفع المؤسسات نحو زيادة عائدات المساهمين سيستمر العمال الأمريكيون في فقدان وظائفهم ذات الرواتب الجيدة، وذلك لصالح العمال الأجانب أو الروبوتات.