كتبت في مقال سابق عن العلاقة الوطيدة بين الملك عبدالعزيز ومدينة الدرعية، وعن عنايته واهتمامه بها، وحرصه على زيارتها واصطحاب أبنائه معه، وكيف كانت رؤيته لها؛ لكونها العاصمةَ الأولى التي تأسست فيها الدولة السعودية على يد الإمام محمد بن سعود عام 1139هـ/ 1727م.
في هذا المقال سأركز على اهتمام الملك عبدالعزيز بزيارة الدبلوماسيين والزوار الأجانب للدرعية؛ لأهميتها ورمزيتها بما تمثله من عُمق تاريخي مهم للدولة السعودية. كان هدفُ الملك عبدالعزيز، من خلال التوجيه بالترتيب لهم لزيارتها، هو تعريفهم بتاريخ الدولة السعودية والعاصمة الأولى الدرعية، وبوادي حنيفة وعُمقه التاريخي والجغرافي، وآثار الحضارة السعودية وأنماط العمارة النجدية وعراقة التراث السعودي.
زار المملكة العربية السعودية كثيرٌ من الدبلوماسيين الذين كان أغلبهم من الجنسيات الأوروبية، وقد حرص الملك عبدالعزيز على أن يزوروا الدرعية ليروا أين بدأت الدولة. سأذكر بعض النماذج لهؤلاء الدبلوماسيين الذين زاروا الدرعية، وقد كان أولهم هو جيرارد ليتشمان الذي التقط أول صورة معروفة للدرعية في عام 1912م، وتحدّث عنها وعن تاريخها، وأتى بعده جون فلبي (عبدالله فلبي) مبعوثاً للقاء الملك عبدالعزيز، فأرسل معه الملك بعض الأدلاء لزيارة الدرعية عام 1917م فقام بتصويرها ووصفها قائلاً: «وصلنا حافة وادي حنيفة، ووقفنا أمام أنبل أثر في الأراضي السعودية كلها؛ فهذه صخرة ضخمة تقع فوق نتوء ضخم بيضوي الشكل يقع بدوره في منتصف وادي حنيفة. قاعدة تلك الصخرة تشبه الشرفة التي تطل عليها المدينة، توجد حقول القمح، كما تحيط بها أيضاً مزارع النخيل والبساتين في حين تتوّج قمة تلك الصخرة أبراج وقصور الدرعية المهدّمة التي كانت في يوم من الأيام العاصمة الفخورة لسعود الكبير، إمبراطور الجزيرة العربية كلها... تعرف الآثار الواقعة على الصخرة عن بقية الدرعية باسم الطريف».
وكانت زيارة جورج رندل مدير قسم الشؤون الشرقية بوزارة الخارجية البريطانية برفقة زوجته جيرالدين من أشهر الزيارات، حيث قدم إلى الدرعية في زيارة رسمية عام 1937م وجال في حي الطريف فصوّر عدداً من الصور التاريخية التي بيّنت تميّز الحي. حرص الملك عبدالعزيز على أن يزور رندل الدرعية لكونه أحد أهم الدبلوماسيين المرتبطين بالسياسة البريطانية الخاصة بالمنطقة ليتعرّف مباشرةً على تاريخ الدولة وعراقتها وجذورها الراسخة.
وتعدّ زيارة الأميرة أليس حفيدة الملكة فيكتوريا وزوجها إيرل إثلون من أشهر الزيارات للدرعية خلال تلك الحقبة، وكان ذلك في عام 1938م. فبعد أن قطعت المسافة من جدة إلى العاصمة الرياض، جرى ترتيب زيارة خاصة لها ولزوجها إلى الدرعية لرؤية العاصمة الأولى ومشاهدة آثارها، وقد أمر الملك سعود بن عبدالعزيز - ولي العهد آنذاك - باستضافتهما، فتم ترتيب مأدبة لهما في إحدى المزارع، وطافا في بطن وادي حنيفة.
كما كان جيرالد دي غوري من الدبلوماسيين الذين زاروا الدرعية وتركت لديهم انطباعاً مختلفاً، فتحدث عن عظمتها وتأثيرها وعن العُمق التاريخي لهذه العاصمة.
وممّن زار الدرعية أيضاً الدبلوماسي الهولندي دانيال فان در ميولن الذي تحدّث عنها وعن تاريخها، والتقط عدداً من الصور لمعالم المدينة التاريخية ولأبرز الآثار فيها.
ولستُ هنا بصدد إعداد قائمة بمن زار الدرعية، ولكن المقصود أن يُعرف كيف كان الملك عبدالعزيز ذا رؤية ثاقبة واهتمام كبير بالتاريخ السعودي الممتدّ لأكثر من ثلاثة قرون، بحيث إنه اهتمّ وحرص حرصاً كبيراً على إبرازه لهؤلاء الدبلوماسيين الغربيين.
لقد كان الملك عبدالعزيز يعلم أهمية التاريخ وأثره الكبير في نواحي الحياة ومجالاتها المتعددة، فكانت الدرعية هي عُمق تاريخ الدولة وأساسها؛ منها بدأت راسخة الجذور قوية الأساس عظيمة الأثر. لقد أراد الملك عبدالعزيز أن يوصل رسالة مفادها: هذه آثارنا، وهذا تاريخنا ينطق أمامكم بكثير من البطولات والتضحيات والقصص التي تُبرز العراقة والقوة والشجاعة والرسوخ.
** **
- د. محمد العبد اللطيف