سعد بن دخيل الدخيل
ليس هناك سر يجعل الدول شرقاً أو غرباً تتنافس على الفوز بعلاقات متميزة ومصالح مشتركة مع المملكة العربية السعودية، فكما تحدثت في المقال السابق، أن توحيد البلاد بعد أن فتح الملك عبدالعزيز الرياض واستردها كان بداية الاهتمام بهذا القائد الشجاع المتفرد صاحب الهمة العالية والنظر الثاقب المغفور له الملك الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، كما أن موقع هذه البلاد له تأثير قوي فهي تجمع قارات العالم ومركز التقائها من خلال المواصلات البحرية التي تجمع الشرق بالغرب والعكس وقوة هذا المؤسس سياسياً لها بالغ الأثر في أمن هذه الأساطيل البحرية والطرق التي تسلكها كطريق الخليج الذي تبدأ أهميته من جزر الهند الشرقية وإندونيسيا وماليزيا وبحر العرب حتى مضيق هرمز وكذلك طريق البحر الأحمر. وقد حرص الملك عبدالعزيز على إقامة علاقات دولية واسعة تتسم بالتعاون المثمر البناء وخدمة مصالح بلده الاقتصادية والتنموية وشعبه ورفاهيته، كما سخر هذه العلاقات لخدمة قضايا الأمة العربية والإسلامية وخاصة قضية فلسطين فهي لديه القضية الأولى. وقد نشرت جريدة أم القرى في عددها رقم 63 يوم الجمعة 27 شعبان سنة 1344هـ الموافق 12 مارس 1926م مقالاً بعنوان: «حول الاعتراف» بينت فيه الإيجابيات التي يمكن أن تتحقق بسبب الاعتراف العالمي بملكية الملك عبدالعزيز على الحجاز، وذكرت فيه:
«الدول والحكومات لا يمكنها أن تعيش مفردة ومنقطعة عن المجموعة الدولية ولابد لها لتداخل المصالح وضرورة تبادل المنافع من التعارف مع باقي الدول والانضمام لمجموعهم فيما تقتضيه المصلحة العامة لحفظ السلام والراحة بين الجميع، ولو كان بإمكان الدولة الواحدة أن تعيش في منقطع من الأرض بعيدة عن الدول كلها تؤمن حاجاتها من بلادها وليس لأفراد غيرها من الدول مصالح شخصية في بلادها لأمكنها الاستغناء عن باقي الدول وعدم الاعتراف لواحدة منها ولكنها كالفرد الذي تقرر استحالة عيشه منفرداً على وجه البسيطة».
يقول عبدالله بن محمد الشهيل في كتابه «فترة تأسيس الدولة السعودية المعاصرة 1333-1351هـ 1915-1932م دراسة تاريخية تحليلية»: بعد دخول الحجاز في حكم عبدالعزيز، نظم صلاته بالدول على أساس المعاملة بالمثل، طبقاً لما هو معمول به بين الأمم، ولم يعد يتدخل غير المسؤولين عند حدوث أي خلاف، وأمن أعضاء البعثات الدبلوماسية في بلاده من الاعتداءات، وقد أقام أول الأمر إدارة خاصة، مهمتها تنظيم العلاقات الخارجية نظراً لما تطلبه، التوسع في الاتفاقيات والمعاهدات والعلاقات والمشاركة في المؤتمرات، وقد سميت «مديرية الشؤون الخارجية التي تحولت في العام 1930م لوزارة تولاها الأمير (الملك) فيصل بن عبدالعزيز وكانت أول وزارة يتم استحداثها»، ويضيف الشهيل: أول من سارع بالاعتراف بالدولة السعودية المعاصرة روسيا عام 1344هـ 1926م، ثم توالت الدول وقد بلغ مجموعها ذلك العام 15 دولة. وكانت بداية الدعم والاعتراف الدبلوماسي من قبل روسيا مبادرتها إلى إرسال وفد سوفيتي رسمي مسلم، للاشتراك في المؤتمر الإسلامي الذي دعا الملك عبدالعزيز إلى عقده في مكة المكرمة عام 1926م، وفي ذلك المؤتمر الإسلامي، أعلن الروس اعترافهم وتأييدهم ودعمهم للحكم السعودي، أي قبل الإعلان الرسمي على توحيد المملكة العربية السعودية بـ6 سنوات، وكان الحجاج الروس يتوافدون على مكة بيسر وسهولة، ففي شهر ذي الحجة 1346هـ رفع رئيس الوافدين من حجاج مسلمي روسيا رئيس النظارة الدينية في آسيا الوسطى مفتي ايشان بابا خان وكذلك رئيس النظارة الدينية في بلدة اوفا مفتي الرحمن وجاء في الشكر: «نحن حجاج بيت الله الحرام الوافدين من ممالك روسيا نقدم لجلالتكم جزيل الشكر والثناء, ألسنتنا هاتفة بالدعاء لجلالتكم مسرورين بما شاهدناه في سيرنا بين هذه الديار المقدسة من الأمن والقوة الإسلامية والعناية بالحجاج، سائلين المولى جل جلاله عز الإسلام وتقوية رابطة المسلمين والتوفيق المستمر لجلالتكم حفظكم الله». وقد قدم نظير تورياكوف أوراق اعتماده سفيراً فوق العادة ووزيراً مفوضاً يوم الخميس 28 رمضان 1348هـ الموافق 26 فبراير 1930 وقال في أوراق اعتماده: «وبما أن الغاية الوحيدة من هذا التعيين العمل على تقوية وتثبيت العلاقات الودية الدائمة لحسن الحظ بين الدولتين الصديقتين»، وتقول د. سميرة أحمد سنبل في كتابها: «العلاقات السعودية الأمريكية نشأتها وتطورها»: «ومع أن الاتحاد السوفييتي هو أول دولتعترف بالدولة السعودية الناشئة منذ 4 شعبان 1344هـ الموافق 16 فبراير 1926م قبل بريطانيا وفرنسا، فإن الملك عبدالعزيز استطاع أن يستفيد وبكل مهارة من التناقض والتنافس بين الدول الأوروبية على أرض شبه الجزيرة العربية، وذلك عندما سمح بتدفق التجارة السوفييتية إلى جدة وتوقيع اتفاقية تجارية لتوريد الكيروسين والغازلين، وأثار غضب القنصل الأمريكي في عدن فكتب تقريراً متناقضاً يدَّعي فيه أن الملك عبدالعزيز يسخر من الاتحاد السوفييتي عندما فتح أسواق جدة للتجارة وأنه يرمي بذلك إلى تغطية رسوم الضرائب لأن تجارة جدة تضررت بسبب قلة الحجاج في تلك السنة بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، ثم عاد التقرير يصف الملك عبدالعزيز بأنه يسخر من السوفييت لكنه قال فيما بعد إن الملك لا يستطيع أن يستمر في الحكم إذا عاداهم، فأثار هذا غضب الملك عبدالعزيز ودفعه إلى الضغط على الدول الأوربية والشركات الأجنبية، ومن المؤكد أن الملك عبدالعزيز قصد من ذلك الضغط لاستخدام ورقة الروس ضد الإنجليز والولايات المتحدة التي بدأت تهتم بشبه الجزيرة العربية، فأرسل الملك عبدالعزيز ابنه فيصلاً إلى الاتحاد السوفييتي سنة 1350هـ 1932م للتباحث في العلاقات بين البلدين»، وتضيف الدكتورة سميرة: «وبعد أن نجحت مناورة الملك عبدالعزيز الذي أفاد من جميع الأطراف ولم يقدم تنازلات لأي طرف، وجاء في بحوث الندوة العلمية لتاريخ الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود «الملك فيصل بن عبدالعزيز بحوث ودراسات» في المجلد الأول صفحة 102: بالنسبة للقيادة السوفييتية كانت أول زيارة من نوعها يقوم بها زعيم عربي كبير ولذا استقبلوه بما يليق من حفاوة وتكريم، قبيل الزيارة تلقى الملك عبدالعزيز من رئيس اللجنة التنفيذية المركزية للاتحاد السوفييتي ميخائيل كالينين رسالة كتبت بالأسلوب الشرقي الفضفاض «يا صاحب الجلالة أنتهز فرصة عودة سفيرنا فوق العادة الوزير المفوض نظير تورياكوف إلى الحجاز بعد الإجازة لأعبر عن أعمق مشاعر الاحترام لجلالتكم ولشعبكم الكريم النبأ السار عن الزيارة التي سيقوم بها إلى موسكو صيف هذا العام نجلكم البار صاحب السمو الملكي الأمير فيصل إنما هو من أسعد مظاهر الصداقة التي تربط بين بلدينا وسنتشرف من خلال ضيفنا المحترم بأن نرفع التحيات أيضاً إلى جلالتكم زعيم الدولة الصديقة، وأنا على يقين بأن العلاقات الصادقة بين دولتينا ستتطور في المستقبل بأشكال أكثر متانة وأكثراستجابة لصداقتنا، وأن كلا الطرفين سيبذلان قصارى جهودهما لتنفيذ مهمة تعزيز العلاقات الحالية الموفقة، تلك المهمة السامية التي تستجيب لمصالح بلدينا...كالينين». وتلقى ميخائيل كالينين من الملك عبدالعزيز جواباً جاء فيه: «8 محرم 1351هـ (14 مايو 1932م) يا صاحب الفخامة، استلمت بشعور من الإرتياح العميق تحياتكم العاطرة الواردة في الرسالة الرقيقة التي بعثتم بها فخامتكم إلي من خلال معالي السفير فوق العادة والوزير المفوض لحكومتكم الموقرة في بلادنا السيد نظير تورياكولوف، وأعرب عن الامتنان على التمنيات الطيبة التي أبديتموها لي ولشعبي، وأبعث إليكم شخصياً وإلى شعب الجمهوريات السوفييتية بأسمى آيات الاحترام، ورغبة في تعزيز العلاقات الودية القائمة بين بلدينا نوفد نجلنا الأمير فيصل في زيارة فخامتكم وإلى بلادكم الصديقة. عبدالعزيز آل سعود». وفي ذكرى جلوس الملك عبدالعزيز بعث القنصل الروسي بخطاب تهنئة إلى الأمير فيصل قال فيه: «يا صاحب السمو إنني آسف لعدم تمكني من الخطابة باللغة العربية كأبنائها ولكنني سعيد بالاشتراك معكم في هذا الاحتفال القومي: قد كان هذا اليوم أحسن وسيلة للأمة العربية النجيبة لإظهار ما تكنه صدور أبنائها من عواطف الود والولاء نحو جلالة الملك المعظم، وإنني أفخر بأن أتقدم باسمي وباسم رفقائي الكرام في هذه الأيام السعيدة برفع أسمى التبريك والاحترام لجلالة الملك المعظم متمنين لجلالته ولسموكم الرفاه ولمملكتكم السعادة ومقدمين للأمة العربية الاحترام مرددين معكم: ليحيى الملك المعظم».
كما أن دولة الهند سارعت بالاتصال بالملك المؤسس وأبدت ثقتها فيه خاصة بعد أن استولى على الحجاز وأصبح تحت حكمه، فهذا مؤتمر الخلافة الهندي يضع قراراً في 29 ديسمبر 1926م يعرب فيه عن ثقته التامة بسياسة السلطان عبدالعزيز في الحجاز، بعد أن زار البلاد وفد هندي في رجب 1344هـ بدعوة من الملك عبدالعزيز برئاسة ظفر خان والتقى الملك ولقي الحفاوة والتكريم. وكانت اليابان تسعى لمنطقة الشرق الأوسط والسعودية تحديداً، ففي 1939م أرسلت قنصلها في مصر يوكوياما ماسايوكي إلى المملكة العربية السعودية للتباحث مع الموحد والمؤسس صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز آل سعود لدعم العلاقات اليابانية السعودية ولعقد الاتفاقيات والشراكات، ولتعرض اليابان للخسارة في الحرب العالمية الثانية فقد فشلت في الحصول على اتفاقيات وعقود استثمارية ومصالح تجارية مع المملكة خاصة في مجال النفط. وأما تايوان فقد اشتركت مع المملكة العربية السعودية في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي اتفقت فيه الدول على تأسيس الأمم المتحدة عام 1946م، وخلال ذلك المؤتمر توصل الجانب السعودي والجانب التايواني إلى أهمية العلاقات بين البلدين، ونتج عن هذه المباحثات بين الطرفين توقيع اتفاقية الصداقة بين الدولتين في 22-12-1365هـ الموافق 15-11-1946م في مدينة جدة. ومن دول آسيا التي عين المؤسس لم تغفلها جمهورية الصين، فقد أدرك أهمية هذه الدولة الكبرى لذا وقع وزير خارجية المملكة العربية السعودية بالنيابة يوسف ياسين معاهدة صداقة مع الصين التي مثلها سفير حكومة الجمهورية الصينية ومندوبها فوق العادة في إيران جينغ بي تون وصادق عليها الملك عبدالعزيز بقوله: «وبعد أن اطلعنا على هذه المعاهدة السالفة الذكر وأمعنا النظر فيها صدقناها وقبلناها وأقررناها جملة في مجموعها ومفردة في كل مادة وفقرة منها، كما أننا نصدقها ونبرمها ونتعهد ونعد وعداً ملوكياً صادقاً بأننا سنقوم بحول الله بما ورد فيها ونلاحظه بكمال الأمانة والإخلاص وبأننا لن نسمح -بمشيئة الله- بالإخلال بها بأي وجه كان طالما نحن قادرون على ذلك، وزيادة في تثبيت صحة كل ما ذُكر فيها أمرنا بوضع خاتمنا على هذه الوثيقة ووقعناها بيدنا والله خير الشاهدين، حرر بقصرنا في الرياض في هذا اليوم السادس عشر من شهر شوال من سنة ست وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة سيد المرسلين الموافق لليوم الثاني من شهر سبتمبر سنة سبع وأربعين وتسعمائة بعد الألميلادية». وقد جاء في مستهل معاهدة الصداقة هذه والتي نشرت يوم الجمعة 2 جمادى الثانية 1367هـ الموافق 30 أبريل 1948م في العدد 1208 (السنة 25) من جريدة أم القرى ما نصه: «الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نحن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، بما أنه قد عقدت بيننا وبين حضرة صاحب الفخامة رئيس الحكومة الوطنية للجمهورية الصينية معاهدة صداقة لأجل تأسيس العلاقات بين بلادينا وتقويتها»، ومن مواد هذه المعاهدة: المادة الأولى: يسود سلام وصداقة دائمان بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الصينية وبين شعبيهما. المادة الرابعة: اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان على أن يمنح رعايا كل من الطرفين المقيمين أو المسافرين في أراضي الطرف الآخر معاملة أولى الأمم بالتفضيل فيما يتعلق بحماية أشخاصهم وممتلكاتهم. المادة السابعة: اتفق الطرفان المتعاقدان الساميان على تنظيم العلاقات التجارية بين بلديهما في اتفاقية تعقد فيما بعد.
كما أن حكومة المؤسس الملك عبدالعزيز أبرمت معاهدة الصداقة بين جلالة الملك وحكومة الأفغان ومثلها وزير أفغانستان في مصر السيد محمد صادق المجددي الذي وصل إلى مكة المكرمة لتبادل قرارات إبرام معاهدة الصداقة بين الحكومة السعودية وحكومة الأفغان ووقعت في مكتب وزارة الخارجية بمكة يوم الأحد 16 ذو الحجة 1352هـ الموافق 1 أبريل 1434م على أن تذاع نصوص المعاهدة بمكة وكابل في الوقت نفسه، علماً أن هذا الوزير المجددي قد وافق عليه المؤسس لاحقاً ليكون مندوباً فوق العادة ووزيرًا مفوضاً لحكومته لدى المملكة.
وجميع ما سبق يدل دلالة واضحة على تنوع العلاقات السعودية بقيادة المؤسس بين الشرق في آسيا والغرب في أوروبا وأمريكا حتى انضمت لدول عدم الانحياز، وقد كان لدول آسيا السبق لدى المغفور له الملك عبدالعزيز وقد فطن لأهمية إقامة العلاقات وتوقيع الاتفاقات ومذكرات التعاون والتفاهم والمعاهدات مع دول آسيا الكبرى كالصين وروسيا، ونبذ الاعتماد على علاقات ذات قطب واحد، ولا تزال السعودية العظمى مقصد كل دولة تريد السلام والوئام وتنشد الأمن والاستقرار، واستمرت كذلك حتى وقتنا الحاضر، وحسب تعبير د. صالح الصقري في مقاله الذي نشر في العدد 16402 من صحيفة الجزيرة يوم الجمعة 3 ذو الحجة 1438هـ بعنوان: (التوازن في العلاقات الدولية للمملكة العربية السعودية.. الصين ((أنموذجاً)) أن رؤية 2030 جاءت لتلقي الضوء على هذه الخصائص والمكونات السياسية والاقتصادية والحضارية للمملكة العربية السعودية ولتحديد المسار الذي يقود المملكة لتكون واحدة من أهم الدول والمجتمعات التي تسهم في بناء الحضارة الإنسانية وتكون أنموذجاً لدولة ((تتأثر)) و((تؤثر)) في محيطها الخليجي والعربي والإسلامي والدولي. أدام الله على البلاد نعم الأمن والاستقرار ومنحها مزيداً من الشموخ والرفعة في ظل قيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله وأيدهما بتوفيقه.