محمد بن عيسى الكنعان
في العام 2021م زرت جمهورية أوكرانيا مع أحد الأصدقاء لمدة 12 يومًا، تجولنا خلالها بالعاصمة كييف الجميلة، ثم مدينة لفيف التاريخية دُرة الغرب الأوكراني، التي تُعبّر عن القومية الأوكرانية بكل قوة ووضوح، ثم منطقة بوكوفيل ذات الطبيعة الساحرة، ولم يُسعفنا الوقت لزيارة مدينتي خاركيف الشهيرة بالجامعات، وأوديسا المدينة الساحلية الإستراتيجية. خلال هذه الرحلة السياحية الممتعة لمست البُعد الأوروبي الغربي في أرجاء أوكرانيا، أو - إن شئت الدقة - التوجه الشعبي نحو الأوربية من قبل الشعب الأوكراني، وكأنه يحاول أن يمسح ما بقي من ملامح العهد البائد لأوروبا الشرقية الشيوعية، ويلحق بركب أوروبا الغربية الرأسمالية، خاصةً أن أوكرانيا كانت ثاني أكبر دول أوروبا الشرقية، وتأسست بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م، ويبلغ تعداد سكانها 42 مليون نسمة، وتملك ثاني أكبر جيش في أوروبا بعد روسيا. حقيقةً لقد تفاجأت بواقع أوكرانيا من حيث تطورها، ومدنيتها، وأمانها، ونظافتها، فلم يمض على انسلاخها من الشيوعية السوفيتية إلا 30 عامًا تقريبًا.
ولعل الأزمة التي تعيشها أوكرانيا اليوم جاءت بسبب الإشكال التاريخي، الذي يتقاطع مع الواقع المعاصر، بين الإرث الشيوعي السوفيتي وتداخل القوميتين الأوكرانية والروسية على التراب الأوكراني، خاصةً شرق أوكرانيا، وبين الرغبة الأوكرانية الشعبية والرسمية للانخراط في المحيط الأوروبي، واشتراطات هذه الرغبة وانعكاساتها السلبية على روسيا الاتحادية، وأيضًا روسيا البيضاء (بيلاروسيا)، ونتيجةً لذلك تشكلت الأزمة الأوكرانية التي يشهدها العالم منذ فبراير الماضي، وهي أزمة تُنذر بنزاع عسكري إقليمي يلوح بالأفق، قد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة؛ فهذه الأزمة ليست وليدة أحداث العملية العسكرية، التي قامت بها روسيا في الجزء الشرقي وشرق الجنوب الأوكراني، إنما لها خلفيات تاريخية، وسبقتها إرهاصات سياسية بين أطراف هذه الأحداث على الساحة الأوكرانية؛ فهناك روسيا بوتين الجامحة، وأوكرانيا المتضررة، والغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي، المتمثل بمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). من هنا يأتي السؤال الذي يبرز بين ركام الأحداث - بغض النظر عن الرابح في هذه الأزمة.
كما هو معروف أن أوكرانيا الحالية قد تأسست بعد تفكك الاتحاد السوفيتي العام 1991م؛ حيث كانت إحدى جمهوريات هذا الاتحاد، ومن ذاك التاريخ وحتى الفترة (2010 - 2014م) - التي شكلت انعطافًا مهمًا ومؤثرًا بالواقع الأوكراني بشكل عام - كانت العلاقات بين روسيا وأوكرانيا هادئة ووثيقة، وتوجت باتفاقية بودابست 1994م، التي بموجبها تخلت أوكرانيا عن ترسانتها النووية مقابل ضمان سلامة الأراضي الأوكرانية وسيادتها من قبل روسيا الاتحادية والولايات المتحدة والمملكة المتحدة. كما شهد العام 2004م اندلاع الثورة البرتقالية، المتمثلة باحتجاجات شعبية ضد نتيجة الانتخابات لشبهة التزوير التي جاءت بـ(فيكتور يانوكوفيتش) رئيسًا لأوكرانيا، المعروف بعلاقاته مع روسيا، إلا أنه تخلى عن كرسي الرئاسة للمعارضة، ثم عاد إليها العام 2006م، ولكن في العام 2010م استطاع فيكتور يانوكوفيتش أن يتولى الرئاسة بعد فوزه بانتخابات ديمقراطية سليمة، ومن ذلك التاريخ بدأ يوطد علاقاته مع روسيا بشكل أثار حفيظة المعارضة الموالية للغرب (الأمريكان والأوروبيين)، خاصةً بعد أن أوقف العام 2013م التحضيرات لتوقيع اتفاقية الشراكة والتجارة الحرة مع أوروبا؛ فاندلعت اضطرابات بدعم أمريكي وأوروبي عرفت بـ(الميدان الأوروبي) العام 2014م، انتهت بهروب الرئيس يانوكوفيتش إلى روسيا، التي اعتبرت إسقاط رئيس منتخب من قبل الأوكرانيين تم بدعم غربي، وبهذا أيقنوا أن الغرب يخطط لأمر ما في أوكرانيا، في ظل توجهات حلف الناتو نحو التوسع شرقًا بما اعتبرته موسكو تهديدًا حقيقيًا لأمن روسيا القومي، خاصةً بعد ما أبدت أوكرانيا رغبتها في الانضمام للحلف، كما أن الغرب لم يعط روسيا ضمانات بعدم انضمام أوكرانيا للناتو. بدأت الأحداث بالتصاعد ففي العام نفسه استولت روسيا على جزيرة القرم، ثم قامت بدعم الانفصاليين الأوكرانيين من أصول روسية في إقليم دونباس بمنطقتي (ودونيستك ولوغانستك)، حيث أعلن الانفصاليون في هاتين المنطقتين جمهوريتين مستقلتين، وهما السبب الرئيس في قيام روسيا بعملية عسكرية موسعة بدأتها في فبراير من العام الحالي 2022م؛ لعزل أربعة مناطق أوكرانية: (لوغانستك، ودونيستك، وزابوروجي، وخيرسون) ذات القومية الروسية وتأمينها، لإجراء استفتاء تقرير المصير بما يلبي مصالح روسيا، وهو ما تم بالفعل واعتبارها أراضي روسية بعد نتائج الاستفتاء، وهذا بالطبع لم يقبله الأوكرانيون ومن خلفهم الرب (الأمريكي والأوروبي).
لا شك أن المتضرر من هذه الأزمة جمهورية أوكرانيا بالمقام الأول، والرابح - حتى الآن - هي الولايات المتحدة، من تدفق السلاح، ومبيعات الغاز المسال لأوروبا، وإضعاف روسيا لإيقاف نموها، لكن في المقابل؛ هل حققت روسيا أهداف عمليتها العسكرية، أم أنها وقعت في الفخ الأوكراني الذي نصبه لها الأمريكان؟ من يوم أن صرحوا بأن الولايات المتحدة لن ترسل قواتها إلى أوكرانيا؛ لأجل أن تتورط روسيا أكثر في هذه المستنقع. يبدو من سير الأحداث ومجمل الأخبار إن روسيا لم تتأثر اقتصاديًا بالعقوبات الغربية بالقدر الذي كان يأمله الغرب (الأمريكان والأوروبيين)، فهي تملك النفط، والغاز، والذهب، وأحد أهم المحاصيل الإستراتيجية وهو القمح، بل العقوبات التي فُرضت على روسيا انعكست سلبًا على أوروبا، بما يخص الطاقة والغاز، خاصةً بعد تدمير خط غاز بوردستريم. ويكفي أن تعرف أن روسيا تزود أوروبا بنسبة (40 %) من الغاز و(30 %) نفط من احتياجاتها، واليوم تأخذ الغاز من أمريكا بأضعاف ما كانت تأخذه من روسيا، وهذا يرفع التكلفة التشغيلية لمحطات الكهرباء والمصانع الأوروبية، وبالتالي ترتفع تكلفة المعيشة على المواطن الأوروبي، ناهيك عن الأزمة التي تلوح بالأفق مع حلول الشتاء. أما على الصعيد العسكري فروسيا لم تعلن الحرب بشكل رسمي، إنما عملية عسكرية محددة الأهداف بشأن المناطق الأربعة، وأي تصعيد ضدها بالنسبة لهذه المناطق يعني الحرب المفتوحة حتى لو اضطرت لاستخدام سلاحها النووي، خاصةً بعد تحريك غواصتها النووية (بيلغورود) من قاعدتها الرئيسة في القطب الشمالي، والكشف عن صاروخ الشيطان الذي بإمكانه إحداث تفجير مدمر (تسونامي بحري) شمال أوروبا، وهذا بالطبع لا يريده الغرب الأوروبي؛ لأن أراضيه ستكون ساحة المعركة الفعلية، فضلًا عن امتلاك الروس لأنظمة صواريخ متطورة تفوق سرعتها سرعة الصوت هي أكثر تطورًا من أي شيء يستخدمه حلف الناتو حسب صحيفة (لو فيجارو) الفرنسية، ولعل القصف الصاروخي المدمر للبنى التحتية في مدن أوكرانية عدة، بما فيها العاصمة كييف ردًا على تفجير جسر القرم يُبرهن على أن الروس جادون في حربهم، ويملكون حلولًا عسكرية لكنها مدمرة. فهل وقعت أوروبا بالفخ الأوكراني بحكم التداعيات السلبية للأزمة على اقتصاد دولها؟