د. تنيضب الفايدي
دخلت كلية التجارة بجامعة الرياض (الملك سعود حالياً) عام 1394هـ، وكان حضوري للكلية بين فترة وأخرى؛ لأنني كنت أجمع بين الدراسة والتدريس آنذاك، وكانت تتردد على ألسنة الطلاب أسماء الدكاترة: غازي القصيبي، أسامة عبد الرحمن، محسون جلال، أما الاسمان الأخيران فقد درست لديهما بعض المواد، وأما الدكتور غازي القصيبي فلم أدرس عنده أي مادة، ولم أحضر له أي محاضرة، لكن رأيته مرة وكنت بالصف الأول، رأيته وقد اجتمع حوله الطلاب في إحدى ردهات مبنى كلية التجارة في عليشة (حي من أحياء الرياض)، وقد تحلَّق حوله الطلاب، ظننته بادئ ذي بدء: أنه من الدكاترة الأجانب، وعندما وقفت مع الطلاب فإذا هو يتحدث العربية الفصحى، وكان سؤاله للطلاب حوله: كلّكم من الرياض، قالوا له: لا، قال أحدهم: أنا من ... وذكر مدينته، والآخر من ...، والبقية من الرياض، ثم نظر إليّ ... وأنت؟، قلت: من المدينة المنورة، وبمجرد ذكر اسمها رفع يده على رأسه فوراً، تشريفاً لكلمة المدينة، وليس لشخصي، لكن جعلتني تلك الحركة أشعر بنشوة؛ لأنني من المدينة، ومعروف أن المدينة منبع الحبّ: أحبّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبّ أهلها، وبادلوه الحبّ، وفدوه بالنفس والولد والمال، فداه نفسي صلى الله عليه وسلم، بل جعل آية الإيمان حبّ المدينة، وحبّ من جاور رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتزماً بشروط الجوار، وبعد أعوام من ذلك اللقاء السريع رأيته في محاضرة للنادي الأدبي بالمدينة، وكان يسأل عنها وأوديتها وجبالها سؤال المحبّ العاشق، ولسان حاله يقول:
وَحَدَّثتَني يا سَعدُ عَنها فَزِدتَني
جُنوناً فَزِدني مِن حَديثِكَ يا سَعدُ
هَواها هَوىً لَم يَعلَمِ القَلبُ غَيرَهُ
فَلَيسَ لَهُ قَبلٌ وَلَيسَ لَهُ بَعدُ
وعندما كان في الستين من العمر، أرسل لطيبة قصيدة حبّ للرسول صلى الله عليه وسلم ذكر فيها بعض فضائل طيبة والثنيّات مذكراً بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال:
تلك الثنيّاتُ، فاذكرْ مطلع القمرِ
واخشع مع الألَقِ الطافي على الذكر
في يوم مولدِه أو يومِ بعثتِه
أو يومِ هجرته ما شئت من عِبَر
في سيرة لم يرَ التاريخ توأمَها
برغم ما أبصرت عيناه من سِيَر
تلا الرسول كتابَ الله فالتفتت
دنيا بأكملها تُصغي إلى السُّوَر
بطيبةِ الطيب أرسى الحق دولته
فالكون في موعد ثرٍّ مع القدر
وجنّد الكفر ما للكفر من عدد
فخرّ في قاع بدر دونما أثر
كتائب الله ترعاها ملائكة
تسير ما بين منصور ومنتصر
واليوم نحن غثاء السيل ما كذَبت
مقولةٌ نُقلت عن صادق الخبر
فيا أبا القاسم المختار يملؤني
حبّ يجلُّ عن التصوير والصور
إن كنت قصّرت في مدحي فمعذرتي
أني رُزقت حروفًا لسنَ من دُرر
لو استطعتُ كتبتُ الشعر متشحاً
ضوءَ الشموس يُحيي أعظم البشر
إذا رأيت خطايايَ التي احتشدت
أوشكتُ أهلكُ من خوفي ومن حَذري
حيناً، وأذكرُ عفو الله تشفع لي
ستون عاماً من الإيمان ذا عمري
صلى عليك إلهُ الكون ما ابتسمت
شمسٌ وما أجهش الباكون في السحر
صدقت،صدقت، وما أجهش الباكون في السحر، إنها محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أخرجت هذه الدرر وأردد:
أيها المغرم المشوق هنيئا
ما أنالوك من لذيذ التلاقي
قل لعينيك تهملان سروراً
طالما أسعفاك يوم الفراق
واجمع الوجد والسرور ابتهاجا
وجميع الأشجان والأشواق
وفي أواخر عام 1430هـ أهديت لمعاليه كتاباً من مؤلفاتي، وأفادوني عند الإرسال بأن معالي الدكتور غازي مريض جداً، وربما موجود للعلاج خارج المملكة، ولكنني أرسلت ذلك الكتاب، وأفاجأ بعد فترة بهذا الخطاب من معاليه:
وبعد فترة حبّرت خطاباً أثني على خطابه وأسأل عن صحته، ولكن قبل إرساله سبق القدر، وحولته إلى دعاء من الأعماق بأن يرفع الله درجته في عليين.