د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
- كانت ليلةً بعبق غيمةٍ جنوبيةٍ وشموخ نخلةٍ نجديةٍ وحبٍ عميقٍ وحضورِ أنيق، ولقاء بضعةٍ وعشرين رجلًا وامرأةً تمتدُّ هُويتُهم من النفود إلى الأخدود، ومن الماء إلى الماء، ولم يكن أكثرُهم يعرفُ عن الداعي غيرَ اسمِه، ومن المؤسسة إلا وسمَها، ووعوا - إذ جمعتهم «أبها» - أنه باذلُ خيرٍ وباذرُ درب أوقفَ بعض ماله لتكريم «القُدوات»، وبعضَه لتزويج المعاقين، وبعضَه للعنايةِ بالمحتاجين، وعُدنا إلى موقعه الشبكيِّ، وفتشنا في الأرشيفِ الإعلاميِّ فلم نجدْ كثيرًا حوله فعذرنا جهلَنا وعذلنا تقصيرَنا، وأيقنَّا أننا أمام رجلٍ بَرٍّ التقتْ فيه تربةُ العطاء وتربيةُ الوفاء فألِفناه دون أن نعرفَه، وعرفناه فإذا هو قد اختار الظلَّ الهانئَ بمنأىً عن الضجيج؛ فرِضا اللهِ غايتُه، ونشرُ المحبةِ منهجُه، وسألنا العارفين بسيرته فأحالونا إلى جذور أسرته وبيئته، وبذورِ سمعةِ أبيه وأخيه وذويه.
- في تلك الليلةِ المضيئةِ رأينا رموزًا مجتمعيةً، وفيهم الوزيرُ والشوريُّ والدبلوماسيُّ والإداريُّ والأكاديميُّ والإعلاميُّ والطبيبُ والباحثُ والشاعرُ والمبدعُ والمثقفُ والرياضيُّ، واستمعنا إلى كلمةِ صاحب المؤسسة بلغةِ وأداءِ الأكاديمي والإذاعي المتميز الدكتور عبدالله حامد، وانتشينا بمقدِّم الحفل الإعلاميِّ القدير الأستاذ أحمد عسيري، وكانت عودتُه للمنبر أحدَ معالم ذلك الاحتفال الباذخ، وقد فات جيلَ الصغار رؤيةُ الكبار حين استبدلوا الأدنى بالأعلى، وسوف يأسَون إن لم يتداركوا أذهانَهم.
(2)
- اقتعد الأستاذ ناصر بن عبدالله العوّاد - صاحبُ المؤسسة ومُوقفُ شطرِ ماله عليها - أمكنةً قصيةً يوم الاحتفال وليلته وفي جميع مناشطه، فقد كان يتفقدُ ضيوفَه ويُنظّمُ الخِدمات لهم، ولم تعنِه صورتُه بل صيته، ولم ينشغلْ بموقعه بل بإيقاعه، وقدَّم أنموذجًا لما يمكنُ أن تتجهَ إليه الأوقاف؛ فتكريمُ الأحياء، وتزويجُ الضعفاء، وما قبلهما وما بعدهما سُبلُ بذلٍ تُكملُ سبلًا وتهدي إلى سُبل؛ ف «اللهم أعطِ منفقًا خلفا».
- كانت المناسبةُ حميمةً، وفي تقليد أوسمة الوفاء وشهادات التكريم شمخ على المنصة محتفِين مهنئين القامات: صاحبةُ السمو الأميرة الدكتورة الجوهرة بنت فهد بن محمد بن عبدالرحمن وأصحابُ المعالي الدكتور علي النملة والدكتور حمد المانع والسفير الدكتور علي عواض عسيري ورائدُ الأعمال عرّابُ الأمسية الأستاذ ناصر العواد؛ فمثَّل حضورُهم شكلًا جديدًا في مناسبة متجددة، وقد اعتادت (وفاء) - كما هو شعارها- أن تزورَ مرشحي التكريم، ممن يختارهم مجلس إدارتها، في منازلهم أو مكاتبهم لتوفرَ عليهم الوقت وأعباء التنقل؛ فكرَّمت - بهذا الأسلوب - أكثر من خمسين شخصيةً منذ عام 2018م، وما يعادل نصفَهم في هذا الحفل السنوي وعنْونَته: «هاماتُ القمم ترحب بقاماتِ الهمم».
(3)
- المنطلقُ من «الهلالية» في القصيم حيث تعودُ أمور إدارتها - منذ أكثرَ من قرن- إلى أسرة العوّاد الكريمة التي وُلد فيها الشيخ عبدالله بن صالح العواد - والدُ الأستاذ ناصر - عام 1333هـ، واستقرَّ في منطقة عسير منذ عام 1377هـ ، وعمل رئيسًا لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوفي بأبها - رحمه الله - عام 1417هـ، وقد أجمع عارفوه أنه رجل السِّتر وحفظ الأعراض والدعوة بالحسنى والإصلاح بين الناس، ولا تكادُ حكاياته - التي لا يملُّ الناس روايتها بل ترديدها - تنضبُ بما تحمله من حبٍ للناس ورغبةٍ في حلِّ المشكلات وتفتيت المعضلات، وقد قال عنه الأمير خالد الفيصل: «إنه لم يرفع العصا، ولم يهاجم المنازل، ولم يكشف العورات، فكان الموجهَ والواعظَ والمصلح دون ضجيجٍ أو قسوة..»، وفي كتاب ابنه ناصر الموسوم: (عبدالله بن صالح العواد: مدرسة الحكمة ونموذج العطاء) - في تسعين صفحة - ما يُشيرُ إلى أشياءَ وإن لم يشملْ كلَّ الأشياء؛ فقد سمع صاحبُكم عنه مواقفَ أخرى تجزمُ بتفرده التيسيريِّ :الدَّعويِّ والمجتمعيِّ الحريص على لأْمِ الافتراق، ومنع الشقاق، واجتذاب المسيء كي يُحسن، والنأي عن التشهير والتنفير.
(4)
- يستعيدُ صاحبكم أولَ زيارةٍ له إلى أبها ضمن وفد معهد الإدارة العامة حين عُقدت ندوةٌ كبرى عن «تنسيق الخدمات الحكومية بمنطقة عسير» وقدًم صاحبُكم حفلَها الافتتاحيَّ، وشارك في جلساتها العلمية، وعَرف وكيلَ إمارتها المساعد الأستاذ صالح بن عبدالله العوّاد رحمه الله 1367- 1413هـ، وسمع امتداحًا له، وقرأ كتاب أخيه ناصر: ( محطاتٌ إنسانية في حياة الراحل صالح العواد ) - في مئة صفحة - فوعى عن قربٍ ما لم يسعْه آنذاك الإلمامُ به، ووجد في الكتاب قصصًا تستحقُ أن تُروى في منابر «الخُلق الفاضل»، ومنها ما سطره الصديق الدكتور عبدالله حامد بما يشبهُ النادرة؛ فليته يُعيدها عبر وسائطه؛ إذ هي درسٌ إداريٌ وسلوكيٌ وتوعويٌ، ولا يتسعُ المقامُ للإشارة إلى سواها.
- وهنا يذكرُ موقفًا لطيفًا يخصُّه ولا شأنَ لأحدٍ به، غير أنه حدّد في تلك الندوة موقفه من ارتداء البشت؛ فقد طُلب منه لبسُه وقت الاحتفال، وهو أمرٌ معتاد، غير أنه لاحظ المنتدين المجتمعين في فندق «الإنتركونتننتال» بالسّودة يُسلّمون عليه حين يضعُه ويتجاهلونه إذ يخلعُه فقررَ وقتها أن يهجرَه؛ فلم ولن يبحثَ عن تقديرٍ خارجَ شخصِه ونصِّه.
(5)
- لم يقتصر جدولُ التكريم على ليلة حفل الجائزة؛ فقد تبعه من الغد برنامجٌ معرفيٌ وترفيهيٌ في جامعة الملك خالد بتنظيم المؤسسة وتشريف مدير الجامعة الأستاذ الدكتور فالح بن رجاء الله السُّلمي، والثناءُ عليه كبير، وشواهدُ المكان والإنسان تؤكد استحقاقَه، وإذ تجولنا في مباني الجامعة توقفنا في مكتبتها المركزية، وسعدنا في ساحتها بالعرضة العسيرية والأبيات الترحيبية، والتقينا ببعض أصدقائنا من أساتذتها ومسؤوليها، وكان ذلك خيرَ ختام.
(6)
- أما رفاقُ الرحلة والمناسبة فيكفي أن تجاورت مقاعدُنا في الطائرة كما في الحافلة وفي الجلسات وعند إيماء التحيات وضمن إلماح اللقطات مع الوضيئين والوضيئات «دون ترتيبٍ أو ألقاب»: الجوهرة بنت فهد وعبدالله دحلان وعبدالقادر كمال وعبدالرحمن السدحان وصالح التويجري وعلي الخضيري وعلي النملة وحمد المانع ومحمد معبر وعبدالعزيز الخضيري وعبدالله ملفي وفهد السُّليم وجعفر الشايب وعلي الموسى وعبدالله أبو عشي وعبدالله الرشيد وفاطمة القرني وفاطمة الهملان وأحمد عسيري وعبدالله الشلتي ومشاعل الشميمري وعبدالله حامد وإبراهيم الفلقي وصالح الحمادي وسالم آل منيع وسالم الوهابي ومنيف المنيف وسعيد الأزهري وتركي العسيري ويحيى آل عبدالله ويوسف الثنيان، وآخرين يعرف أشكالَهم ولم تُتح له الذاكرةُ ربطَها بأسمائهم، وليس أجملَ من الانعتاق من الرسميات والشكليات في مثل هذه المناسبات؛ إذ دارت حواراتٌ وتعليقاتٌ، وتكونت رؤىً وانطباعات، وتبودلت طُرفٌ وذكريات، ومع أن الرحلة لم تتجاوز ستًا وثلاثين ساعة من لدن الذهاب حتى الإياب فقد امتلأتْ بروح المودة وابتسامات الرضا وأكفّ الدعاء.
(7)
- سبق أن نادى صاحبُكم بعدم تحويل الوفاء إلى رثاء ليضيفَه الورثةُ إلى التركة؛ فللمغادرين الدعاء، وللأحياء الاحتفاء، واختطَّ هذا طريقًا له فكتب «إمضاءات» وأصدر «ملفات» وشارك في «ملتقيات».
- الوفاءُ سحائبُ للقلب وورودٌ على الدرب.