عبدالوهاب الفايز
لم أستغرب الترحيب اللافت، بالذات من النخب، بقراري وزارتي المالية والموارد البشرية لتوطين المهن والأعمال الاستشارية. والقراران ثمرة جهود حكومية مشتركة لتوطين قطاع الاستشارات والأعمال، وما تتطلع إليه الحكومة هو (تعزيز حضور الكوادر البشرية في القطاع، وزيادة نسبة التوطين في المهن الاستشارية والأعمال بما يساهم في تنمية المحتوى المحلي في هذا القطاع الاستراتيجي).
قرار المالية سوف يلزم المتعاقدين مع الأجهزة الحكومية (بالاقتصار على تعيين السعوديين في فريق العمل الذين لا تتجاوز خبراتهم العملية والمهنية عدد السنوات المحددة من قبل الجهات المختصة، إضافة إلى استحداث بند باسم التدريب ونقل المعرفة لتدريب منسوبي الجهات الحكومية للاستفادة المُثلى من العقود المبرمة مع المتعاقدين ذوي الخبرة والكفاءة؛ وتُعد هذه الخطوة مُساهمة في توفير بيئة عمل مناسبة ومحفزة للمواطنين والمواطنات وتوسيع دائرة مشاركتهم في سوق العمل السعودي).
الأمر الإيجابي المصاحب لهذا القرار هو تقديم (حزمٍ من المحفزات والدعم لمساندة منشآت القطاع الخاص في توظيف السعوديين، ودعم أجور العاملين المواطنين بما يصل إلى 50 بالمئة ودعم التنقل (وصول)، وبدل الانتقال من مدينة لأخرى، وتدريب الباحثين عن عمل، فيما ستتابع هيئة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية الالتزام بتضمين متطلبات التوطين في العقود الاستشارية).
هذه الجهود الحكومية تستحق التقدير والثناء، وهي بداية التفاتة إيجابية لضرورة بناء قطاع استشارات وطني محترف ومهني ليكون بحجم الطموحات الكبرى لبلادنا التي قدمتها لنا (رؤية المملكة 2030)، وأيضًا ليكون قطاعًا يعكس حيوية مخرجات بناء الإنسان التي تبنتها بلادنا منذ تأسيسها حيث فتحت فرص التعلم والترقي العلمي والمهني في الداخل والخارج، وبذلت أموالًا طائلة في سبيل هذا الهدف الوطني. الآن نحن في حاجة للثروة المعرفية والفكرية التي تجمعت لدى النخب والتي هي حصيلة تأهيل جيلين من الموارد البشرية. لذا لا نبالغ إذا قلنا إن هذه النخب تحتفي بهذا القرار لتوطين المهن الاستشارية.
وهذا طبيعي ومتوقع، فالنخب المتعلمة والمحترفة عددها كبير في بلدنا، وتتطلع إلى التوسع في تقديم الإسهامات الفكرية والفنية في برامج الرؤية ومبادراتها ومشاريعها. والآن لدينا الكفاءات المتخصصة المتقاعدة في القطاعين العام والخاص، وأيضًا المتقاعدون في السلك العسكري.. كل هؤلاء ثروة لبلادنا.
الأمر المهم أن استثمار هؤلاء يحتاج الآليات والممكنات وبيئة العمل المثالية والمحترفة التي تعرف كيف تستثمر هذه الثروة، وتعظم قيمتها المضافة في الاقتصاد. من تجربتنا الطويلة مع المهن، لن تتحقق الاستفادة التي نتطلع إليها إذا تركنا الأمور كما هي، فالقرارات الحكومية السابقة لتوطين المهن غالبًا يتم الالتفاف عليها سواءً من القطاع الخاص أو حتى من القطاع العام. لأن تطبيق القرارات لا يأخذ في الحسبان التحديات والإشكالات الواقعية، فإذا اتضحت المصاعب والأضرار تتراجع حماسة التطبيق.
والمعطيات والتحديات في سوق الاستشارات لا تحتمل التجربة والاجتهاد في التطبيق. إذا سوق الاستشارات السعودي الذي يقدر حجمه السنوي بما يقارب الـ 20 مليار ريال، والحصة السوقية للقطاع بحدود 5 بالمئة من إجمالي الفرص المطروحة مقابل 95 بالمئة للمكاتب والشركات الاستشارية الأجنبية، فهذا يعني أننا أمام مشوار طويل.. بل وطويل جدًّا لتحقيق الاستفادة من الكوادر الوطنية.
أمر مخجل ومؤسف أن تكون حصة القطاع السعودي السوقية خمسة بالمائة.
كلنا نتذكر استشعار ولي الأمر لخطورة الإفراط في الاعتماد على الاستشارات الأجنبية، فقد صدر الأمر السامي الكريم رقم 654 بتاريخ: 5/ 1/ 1441هـ القاضي بإلزام الجهات الحكومية بالتقيد عندما ترغب بالتعاقد للحصول على خدمات استشارية بأن يكون التعاقد مقتصرًا على ذوي الخبرة من السعوديين والمكاتب والشركات الاستشارية الوطنية، وعدم التعاقد مع المكاتب والشركات الاستشارية الأجنبية إلا في أضيق الحدود، وفي الحالات التي لا تتوافر فيها خبرات وطنية لتقديم الخدمات المطلوبة. مالذي تحقق بعد هذه السنوات؟
قطاع الاستشارات لن يكون مستغربًا أن يُوضع في إطار القطاعات والمجالات (السيادية) لأهميته وخطورته على التوجهات الإستراتيجية وعلى صنع السياسات والقرارات والمشاريع الحكومية والخاصة. بلادنا في مرحلة تحول كبير وتحتاج الخبرة الفنية والمهنية المحترفة في مختلف المجالات، وهذا التحول يتطلب الإطلاع على أمور خاصة وبيانات ومعلومات واسعة عن بلادنا. إذا تركنا الشركات والمكاتب الاستشارية الأجنبية تبحر في قواعد البيانات الوطنية، فهذا قد يضع الأمن الوطني لبلادنا في خطر، بالذات في هذه الحقبة التاريخية حيث التحول في موازين القوى يتسارع، ومواقف الأصدقاء والأعداء تتبدل بصورة تحتاج التحوط الواسع. هذا مهم لأننا في حقبة أدواتها الحروب الاقتصادية والثقافية.
سبق أن اقترحنا (في عدد الجزيرة 20 ديسمبر 2017) آلية عملية ضرورية وتختصر الزمن وتسرع استيعاب المخاطر التي نخشاها على عملية صنع السياسات وعلى أمننا الوطني، وضرورية لبناء قطاع الاستشارات. ربما الحل المستدام هو في (إنشاء كيان استثماري وطني/شركة قابضة)، يتولى إدارة الطلب على الاستشارات والدراسات والبحوث التي يحتاجها القطاع العام. والكيان المقترح يفترض أن يكون (القاطرة) لقيادة قطاع الدراسات والاستشارات؛ وهذا يؤدي إلى تأسيس صناعة الدراسات والأبحاث في المملكة، ويفتح المجال لتوليد الوظائف، وينمي مراكز الدراسات والأبحاث المتوسطة والصغيرة، ويعظم مكاسبنا الوطنية من صناعة المعرفة. وأيضًا يوجد (ارشيف وطني) للدراسات والاستشارات، مع تولي (حوكمة ورقابة) هذا القطاع الحيوي حتى لا يكون مرتعًا للفساد والغش.
ويبقى السؤال الموضوعي المشروع: إذا سارت الأمور بحسب السوابق التي لدينا في سياسات التوطين للمهن.. كم سنه نحتاج لتوطين 95 بالمئة في قطاع الاستشارات؟