م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1.تعرفتُ على «صديقي سعد» في أول يوم عمل لي بعد أن تخرجت من الجامعة (مطلع عام 1983م).. كان يسبقني في العمل بالإدارة التي تعينت فيها بسنة تقريبًا.. استقبلني وكأنه يعرفني من سنين مُرحبًا مثنيًا متوددًّا إلى درجة أدهشتني بشدة.. وأخذتُ أفتش في ثنايا ذاكرتي هل سبق أن التقيتُ به وعرفته قبل اليوم ونسيته؟ أربكني باستقباله وأحرجني بتودده، وقلتُ في نفسي: واعيباه لو كنا فعلاً سبق أن التقينا وتعارفنا ثم نسيته، كيف أعرف دون أن أفضح نفسي؟ لكنه هوّن عليّ بأن عرّف بنفسه وأنه سوف يعرّف بي بقية الزملاء.. فعلًا أخذني في جولة على الزملاء في الإدارة، ووجدتهم يرحبون به أكثر مما يرحبون بي.. وهذا لا يعني أن ترحيبهم بي كان قليلًا، لكن ترحيبهم به كان كثيرًا.. كانوا يتسابقون في الابتسام في وجهه ورد التحية له، وكأن في عنق كل واحد منهم معروفًا كبيرًا له لا يعرف كيف يرده.
2.»صديقي سعد» في مثل سني تقريبًا.. كلانا لم يتجاوز النصف الأول من العشرينيات.. ونتيجةً لوده الشديد اعتبرته منذ اللحظة الأولى صديقًا شخصيًّا، وقد كان الصديق الشخصي لكل زميل في الإدارة.. كل واحد منا يُظْهِر أن «سعد» هو صديقه الشخصي الأول.. لقد كانت لحظة سعيدة أن أبدأ أول يوم عمل في حياتي بعد الجامعة بوجود «سعد» الذي سهّل علي كل شيء.. عرفني بالجميع، ليس في إدارتنا فقط، بل بكل الزملاء في كل الإدارات.
3.»صديقي سعد» فيه صفات جميلة، كان صعبًا على شاب مثلي أن يتصف بها.. فمثلاً الإدارة التي نعمل بها كانت في الدور الرابع في المبنى، وحينما ننتظر المصعد ونكون أول الناس أجده يُقَدِّم كل من أتى بعدنا للمصعد, وإذا تقدمنا وفتح الباب يمسكه حتى نمر كلنا.. أقول له وكأني ألومه: اترك الباب للذي بعدك يمسكه، صاير كأنك بوّاب, كان يبتسم ولا يرد.. كان يساعد (الفَرَّاش) - وهو مصطلح كان يطلق (في زمننا) في الجهات الحكومية على عامل النظافة والشاي والقهوة - في نقل الأكواب وتنظيف قاعة الاجتماعات.. كان إذا تحدثت معه ينظر في عينيك بتركيز تعرف منه أنه في كامل إصغائه.. كان ينهاني ومن هم مثلي سريعي الحكم على الأشياء والأشخاص والأحداث بقوله: لا تستعجل.. ثم يزيد: بنيت حكمك على المظهر وأنت لا تعرف ما الذي خلف ذلك المظهر.. وكان ذلك يزعجني وأقول له: هل تريدنا أن نكون عميًا صمًا بكمًا؟
4.عَمِلنا سوياً في إدارة هندسية.. كانت وسيلتنا في نقد أو مراجعة المُخططات أو حتى الإشراف على المقاول جادة وأحيانًا فظة.. منطلقين من قاعدة أن كل مقاول يعمل مع الحكومة هو (متهم) حتى يُثبت براءته، وأنه سوف يبحث عن أي وسيلة حتى يبخس الدولة حقها، ويخل بالمواصفات.. بمعنى أننا كنا نفترض سوء النية دائمًا وعلينا أن نكون صقورًا حادة النظر لكشف ذلك المتلاعب الغشّاش, بينما «م. سعد» يقدم ملاحظاته بأدب جم.. لذلك كانت لنا جميعًا صدامات حادة مع المقاولين، إلا هو فقد كان مؤدبًا في ملاحظاته وكانوا يخجلون منه فيستجيبون لطلباته حتى لو كانت خارج العقد.
5.في عام (1984م) فاز المنتخب السعودي بقيادة المدرب الوطني «خليل الزياني» ببطولة آسيا.. وكانت أول بطولة قارية يفوز بها المنتخب.. احتفلت المملكة كلها بذلك الفوز، وأججت روح التشجيع لدى الجميع وتعززت الانتماءات للأندية، واشتد الصراع بين المشجعين إلى درجة تَسَببتْ في النفور بين الأصدقاء.. وكان «سعد» يشجع النصر.. وأنا والكثير من الزملاء نشجع الهلال.. ومنا من يشجع الأهلي والاتحاد.. لكنه كان الوحيد في الإدارة الذي يشجع النصر.. الغريب أننا كنا نحزن على هزيمة النصر لأجله ونحن الهلاليون.. أليس هذا غريبًا؟