رؤية - خالد الدوس:
اهتم عددٌ كبيرٌ من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء علم الاجتماع وميادينه، واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع البشري وظواهره، واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه. وقد أسهم كثير من المفكرين والمنظرين والعلماء في إثراء هذا الميدان العلمي الخصيب، وإشباع اتجاهاته السوسيولوجية. ومن أهم المنظرين والباحثين في علم الاجتماع العالم الاجتماعي العراقي الراحل الدكتور فالح عبد الجبار الذي كان يعد من أبرز علماء الاجتماع في بلد الرافدين في العقود الأخيرة، بوصفه عالم اجتماع اهتم كثيراً بالمجتمع المدني وترسيخ معالم التفكير العلمي والعقلانية بعد أن كانت معظم أبحاث هذا المفكر الإنساني تهتم بدراسة البناء الاجتماعي والأنظمة السياسية والدينية والاقتصادية.
ولد عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار في بغداد عام 1946 وعاش متنقلاً بين بغداد وإقليم كردستان وبعد أن أنهى تعليمه العام واصل تعليمه الجامعي بعد أن شد الرحال عام 1978 إلى بريطانيا وواصل تعليمه العالي في جامعة لندن العريقة التي تأسست عام (1836) وهي بالمناسبة تعد أكبر جامعة في بريطانيا، فنال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع ثم عمل في الجامعة وعلى وجه التحديد في كلية بيركبيك أستاذاً وباحثاً فعكف على الأبحاث العلمية والدراسات السوسيولوجية التي كانت ترتكز على موضوعات المجتمع المدني والطبقات الاجتماعية والدراسات الماركسية وكرس سنوات طويلة من حياته البحثية لترجمة كتاب (رأس المال) للعالم الاجتماعي الشهير والأب الروحي للنظرية الصراعية الاجتماعية (كارل ماركس)، وصدرت طبعته العربية في ثلاثة مجلدات، كما أصدر كتابين عن (ما بعد الماركسية) أحدهما بالعربية والثاني بالإنجليزية حمل عنوان: ما بعد الماركسية والشرق الأوسط.
عرف عنه حبه للقراءة والاطلاع الواسع فكان غزير الإنتاج في عمله الأكاديمي كموسوعة كانت تسير على قدمين..! لأنه كان يعمل ليل نهار وكأنه في عجلة من أمره فكان يكتب المقالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية ويلقي محاضرات ويؤلف كتابا ويترجم المراجع العلمي في العلوم الاجتماعية، تميز عالم الاجتماع العراقي الراحل فالح عبد الجبار بصفات قلما تتوفر بعالم متخصص في علم الاجتماع المعاصر.. العلم الذي يدرس الظواهر الاجتماعية والبناء الاجتماعي.. فكان حاد الذكاء، وحاضر الذهن، ودقيق الملاحظة، وثاقب التحليل، وعلى الرغم من انه كان عالما اجتماعيا بارعاً إلا أنه أجاد مهارات عدة في مجالات مختلفة فقد كان صحفيا ناقداً وأديباً، ومؤرخاً نبيها ومترجماً حاذقاً، فقد عمل العالم الراحل في عقد السبعينيات والثمانينيات الميلادية من القرن الفائت في الصحافة في العراق ولبنان وسوريا قبل أن ينتقل إلى العمل البحثي والأكاديمي في خارج وطنه حيث شارك باحثاً ومحاضراً في عدد من الجامعات والمؤسسات البحثية، ومنها معهد دراسات السلام في نيويورك بالولايات المحتدة الأمريكية، وقسم السياسة وعلم الاجتماع في كلية بيركبيك التي كان شعارها الرائع (أدرس ليلاً)! وتميزت باستقطاب العاملين الذين يرغبون الحصول على مؤهل جامعي في مرحلة البكالوريوس وتوفر لهم برامج مسائية ليتلاءم ذلك مع أوقات أعمالهم كما عمل د. فالح في قسم الدراسات الإفريقية والشرقية (سواس) بجامعة لندن وجامعة ميتروبوليتان-لندن وجامعة اكستر في بريطانيا، وترك هذا العالم الفذ عدداً من المؤلفات الأخرى بالغتين العربية والإنجليزية ومنها:كتابه (الأحوال والأهوال) وكتاب المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف 2008م وكتاب الديمقراطية المستحيلة - الديمقراطية الممكنة- العراق نموذج 1998م، وكتاب التوتاليتارية 1998م، وكتاب معالم العقلانية والخرافة في الفكر السياسي العربي 1992م. وكتاب باللغة الانجليزية بعنوان: القبائل والسلطة في الشرق الأوسط عام 2002م وكتاب الأكراد والقومية والسياسة عام 2004م، وكتاب الاستشراق والإسلام عام 1991، وكان قبل وفاته يترأس المعهد العراقي للدراسات الإستراتيجية ومقره في بيروت، كما كان من اهتمامه بموضوعات علم الاجتماع دراسة مفهوم الاغتراب ودلالاته ومعايناته عند العلماء الأوائل هوبز، ولوك، وهيقل. وفويرباخ، وماركس .و في الفترة الأخيرة من حياته العلمية انشغل بداسة (أنثروبولوجية) موسعة ترصد منظومة العشائر في المجتمع العراقي بتركيبته الديموغرافية المعقدة.. ومدى تأثيرها على المشهدين الاجتماعي والسياسي في بلد الرافدين، ولكثرة اهتماماته بالشأن الاجتماعي وجد نفسه في البحث الاجتماعي (النظري والتطبيقي)..كقامة علمية ومهمة أكاديمية بارعة في ذراع التنمية (البحث العلمي).
توفي عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار عام 2018م بعد إصابته بأزمة قلبية أثناء تسجيل برنامج تلفزيوني في العاصمة اللبنانية بيروت وكان ضيفا للحديث في برنامج وثائقي عن المجتمع العراقي وتحولاته.. واعتذر عن إكمال الحوار المباشر وقد نقل إلى مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت للعلاج، غير أنه ما لبث حتى فارق الحياة فجر يوم الاثنين 26 فبراير 2018م عن عمر يناهز 72 سنة.. رحل بعد أن تخصص بدراسة الفكر الاجتماعي والسياسي في الشرق الأوسط وقدم أبحاثاً ودراسات ثرية في علم الاجتماع الديني والقانوني والمجتمع المدني وغيرها مازالت تشكل مرجعا للباحثين والمتخصصين في علم الاجتماع المعاصر واتجاهاته البنيوية والوظيفية والصراعية.