يتميز منهج الروائي الفرنسي اريك فويار بشكل عام ببنية محكمة رصينة وبأسلوب يوحي بمشاعر الرضا والغضب. فأعماله الروائية تتناول حقباً تاريخية ترتبط بالحرب أو بمظاهر العنف والاضطهاد: منذ عملية آنشلوس العسكرية (رواية جدول أعمال الحائزة على جائزة جنكور 2017) إلى أعمال الشغب الشعبوية في القرن السادس عشر (رواية حرب الفقراء 2019) مروراً بالحرب الهند صينية وبالتحديد مع اقتراب نهاية الوجود الفرنسي في فيتنام 1946 /1954 .
انطلاقاً من هذه الفترات الحرجة سيذهب الكاتب وراء الكواليس وسيقف دائما إلى جانب المقهورين ضد جرائم النخب السلطوية: فإذا كانت رواية «حرب الفقراء» تقف في صفوف الثائرين في القرن السادس عشر، فإن رواية «خروج مشرِّف» تتميز بتوجيه أصابع الاتهام إلى السلطة المهيمنة التي تتحكم في المجالس النيابية أو الجيوش أو حتى البنوك.
يمكن اعتبار رواية» خروج مشرف» نوعا من التحقيق الذي يتم إجراؤه استنادا إلى وثائق الأرشيف المكتوبة أو المرئية أو المسموعة، وهي بذلك تُعد نقطة انطلاق مثالية لخيال الروائي. تبدأ القصة بزيارة تفقدية إلى منطقة الهند الصينية في يونيو 1928 وتحديداً إلى مصنع تابع لشركة ميشلان. يكتشف المفتشون سوء المعاملة التي يتعرض لها العمال وأن وباء الانتحار ينتشر بين العاملين من سكان البلاد الأصليين حيث تسود في هذا المجتمع الصغير السادية والقسوة. في هذه الرواية، يقتفي المؤلف أثر المصرفيين والسياسيين والقادة العسكريين عبر مراحل مختلفة من الصراع الذي سينتهي بكارثة عسكرية في منطقة ديين بيان فو الفيتنامية.
عند تناوله لقصة الحرب الهند صينية، يصف أريك فويار بشكل دقيق المنطق الكارثي الذي تبنته الطبقة الحاكمة الفرنسية والذي يرمز إلى الخوف والسعادة في آن واحد. فالصورة الجميلة التي توجد على غلاف رواية «خروج مشرِّف» هي لزوجين في الخمسين من العمر، ينظران إلى القارئ، إنهما أنيقان ووقوران. أما عن الرّجل، لا كروا دو كاستري، فهو حليق الرأس، بارد النظرة، ذو جبهة عريضة وحاجبين كثيفين، حامل السجائر مثبّت بين شفتيه الدقيقتين، كما أن سترته وربطة عنقه في غاية الأناقة، تتجسّد من خلاله رمزية القائد المِقدام الواثق بنفسه. اُلتقطت صورة أبطال الرواية السيدة جاكلين والسيد كريستيان ماري فردينان لا كروا دو كاستري في 11 سبتمبر 1954 قبل أشهر قليلة من هزيمة القوات الفرنسية في منطقة «دين بين فو» الفيتنانية تحت قيادة نفس الجنرال لا كروا دو كاستري.
ينصب الناشر شِباك الخديعة لإقناع القارئ، من خلال صورة الغلاف، بعنوان الرواية المستوحى من خطاب رينيه ماير رئيس مجلس إدارة منظمة الجماعة الأوروبية للفحم والصلب، إذ إن «خروج» الفرنسيين من الحرب الهند صينية لا يحمل أي معنى من معاني «الشرف».
يستلهم فويار مادته القصصية من المؤرخ كما أنه يستلهم معنى الغضب من المقاتل، لكن فويار قبل كل شيء كاتب والمنهج الذي ينتهجه هو المنهج الأدبي، ولأنه يسرد التاريخ من خلال تقنيات الكتابة الروائية فسيحمل القارئ على الدخول إلى منطقة الهند صينية ومعه دليل السفر بمفرداته البسيطة التي تعود إلى عام 1923 والذي يعتبر بالنسبة للسائح مهما للغاية («اذهب وابحث عن عربة، انطلق بسرعة، ارفع غطاء المحرك، ابحث عن مطعم ...»). القصة الكاملة التي تلي ذلك العرض المبدئي مُشتقة من ألفاظ تدل على أن هناك سلطة وأنه يمكن الاطلاع على تقارير المفتشين وعلى خطابات النواب وبعض المراسلات الوُدّية والرسمية، كما يمكن مشاهدة المقابلات التلفزيونية التي تتناول قضايا حساسة تتعلق بمجلس إدارة بنك منطقة الهند صينية.
في رواية «خروج مشرف» يفتح المؤلف أبواب بنك منطقة الهند صينية، عندئذ يشعر القارئ بالدهشة لأن البنك يربح الأموال الطائلة بينما يسقط آلاف الجنود في هذه الحرب غير المجدية بين جريح وقتيل. إن هذه القصة تثير بلا خجل جانبًا مظلمًا من التاريخ القمعي الذي مارسته الطبقة المستبدة.
يرسم إريك فويار رسوما كاريكاتورية تجعل من رجال السلطة المستبدين مهرجين (انظر إلى البرلمانيين من ذوي الأجسام الضخمة). فمن الأسلوب الساخر اللاذع إلى الجمل الطويلة التي تثير قضية معينة أو التي تجعلنا نشعر بالأسى. فما أن نقرأ هذه الرواية حتى نستسلم للقهقهة بشكل قوي إلى أن ينقلب الضحك سريعا إلى مصدر للاختناق. يمكننا أن نتساءل عن فكرة معينة وننتظر قراءة المؤرخين لها.
سيسخَر الراوي من أحد النواب لأن ملامحه تشبه أحد الإذاعيين، وحيث أنه يُعبّر عن غضبه وقلقه إزاء مصير باتريس لومومبا المناضل الكونغولي الذي تم اغتياله تحت سمع وبصر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، فانه يُعبّر أيضًا عن إعجابه بالسياسي الفرنسي بيير مينديس فرانس الذي يُعتبر أحد الشخصيات النادرة المشرِّفة حقًا في هذه الرواية.
إن هذا التحدي، بالنسبة لفويار، يعني قبل ك ل شيء التخلص من الحنين المصطنع لتلك الحقبة الاستعمارية الفائتة لفرنسا المحتلّة. فالاستعمار وفقاً لتعبير عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس عبارة عن واقع اجتماعي مكتمل الأركان، لكن هذا الواقع الاجتماعي ما هو إلا افتراس للآخر وارتكاب لجرائم بحقه، وهذا ما يمكن أن يستشفه القارئ في الفصل الأول من خلال تلك الزيارة التفقدية عندما يتم اكتشاف العمال الذين يتم تقييدهم وتعذيبهم وعندما يدرك القارئ أن المدراء متلبسون بالجرم ومع ذلك فهم يركضون نحو الضحية ويقولون: نتمنى ألا تؤذي نفسك».
يؤكد أريك فويار أنه لم يؤلف ردّ هؤلاء المدراء، لكنه وجده مكتوبا في تقرير المفتشين. إنها واحدة من أكثر أشكال الإنكار دناءة، فهذا الإنكار ليس استثنائيا بل على العكس القاعدة. اقرأ إن شئت تولستوي في رواية « البعث» وكيف يستطيع مالك الأرض الثري أن يفهم مرارة القهر بعد أن غض الطرف عنها وتناساها؟ أليس هذا ما يذكره ألفريد جاري عن الهيمنة في مسرحية «استبداد الأب أوبو».
ختاماً يمكن القول بأن رواية «خروج مشرف» مثل غيرها من الروايات التي كتبها فويار تُعد تكريما لهؤلاء الذين يقفون في وجه القادة الفاسدين. يرسم المؤلف بانوراما أخلاقية تصف الطبقات العليا من كبار السياسيين والعسكريين والصناعيين ورجال الأعمال والرأسماليين. لقد تمكّن فويار من وصف جميع الوسائل التي استخدمها أقوياء هذا العصر من أجل تأخير الموعد النهائي لإنهاء الصراع والعثور على «مخرج مشرف» من هذا المستنقع. ستقشعر أبدان القراء عندما يعرفون عدد الأرواح التي أزهقت والخسائر المادية التي تكبدها الجميع.
** **
أيمن منير - أكاديمي ومترجم مصري