د. فهد بن عبدالله الخلف
يمكن أن نستخلص النظريّة التي بني عليها هذا الكتاب من مقدّمة المؤلّف إذ يقول: «هذا الكتاب يهيّئ للعاميّة المصريّة فرصة واسعة؛ كي تنفض عنها، وتزيح كلّ ما باعد بينها، وبين أمّها العربيّة الصحيحة من تحريف أو غلط أو خطأ، ولو أنّ موادّه كتبت فيها كتب تعليميّة للناشئة وللمذيعين والمذيعات وأتيح لها أن تُعرَض عرضًا حسنًا على أفراد الجماهير المصريّة في الصحف والتلفزيون لأسرعنا الخطى في محو الفواصل وطمس الفوارق بين العاميّة المصريّة والعربيّة الفصيحة، ولأصبح جميع أفراد الشعب المصريّ يستطيعون النطق الصحيح بالعربيّة السليمة في التخاطب والتفاهم بينهم في المنزل والمدرسة والسوق والمصنع والحياة اليوميّة العاملة»(1).
والمؤلّف في نظريته -في ظنّي- أنّه لم يفرّق بين مستويين لغويّين مهمّين هما: مستوى اللغة الفصيحة، ومستوى اللهجة الدارجة أو العاميّة، إذ يريد أن يعدّل في بنيّة اللهجة المصريّة وأصواتها حتّى تعود إلى أصلها، وهو اللغة الفصيحة، وهو أيضًا لم يفرّق بين المستويات اللغويّة التي يحاول علاجها، فنراه يجمع بين لغة التعليم عند الناشئة، ولغة الإعلام عند المذيعين والمذيعات في الصحف والتلفاز، وهي لغة رسميّة فصيحة ميسّرة، وبين اللهجات المستعملة في المنزل والسوق والمصانع والحياة اليومية العمليّة، وهو بهذا المنهج من الدراسة يتبنّى رأي بعض اللغويّين المتقدّمين، ومن تقيّلهم من اللغويّين المحدثين الذين يحاول الدارس منهم أن «يعالج اللهجات على أنّها انحراف في اللغة الفصحى»(2)، ولكن إذا عرفنا أنّ بعض اللسانيّين المحدثين وبخاصّةٍ دارسو اللسانيّات الاجتماعيّة يرفضون هذا الطرح، ويدرسون اللهجات دراسة علميّة مستقلّة لها أدوات منهجيّة خاصّة، والمنهج الاجتماعيّ في دراسة اللغة «أصبح الآن يعتبر كلّ لهجة مستوًى لغويًّا له قيمته الخاصّة»(3)، وبهذا تنوّع تصنيف اللهجات في الدراسات اللسانيّة المعاصرة، فهناك مصطلح اللهجة وهي: «مجموعة من الصفات الصوتية التي تنتمي إلى بيئة خاصّة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد البيئة الخاصّة بهذه اللهجة»(4).
وهناك مصطلح اللغة الدارجة أو العامّيّة، وهي: «اللغة التي تستعمل في مجالات الحديث اليوميّة العادية بين أفراد المجتمع، وقلّما تستعمل في الأحاديث الرسميّة، وتتميّز بخصائص نطقيّة على المستويين: الصوتيّ والصرفيّ»(5)، وهناك أيضًا اللغة الخاصّة بين المعارف، وهي «اللغة التي تكون أكثر استعمالًا بين الطبقات الاجتماعيّة التي يقلّ مستوى تعلّمها»(6)، وأيضًا ما يُسمّى باللغة المهنيّة، وهي: «مجموعة من الألفاظ والتعبيرات في الكلام أو الكتابة ذات دلالات خاصّة تستعمل اجتماعيّا أو مهنيًّا لا يفهمها غير مجموعة معينة كما نرى عند أصحاب المهن المختلفة مثل: الأطبّاء والمهندسين والمحامين والتجّار ... ومثال ذلك هذه الألفاظ التي عرفها المجتمع المصري (باكو) بمعنى الألف جنيه، و(أرنب) بمعنى مليون جنيه و(فيل) بمعنى مليار جنيه»(7).
ومن هذه التعريفات المتعدّدة لما يندرج تحت مصطلح اللهجة من تنوّعات نستنتج أنّ بعض الدارسين يعدّون «اللهجة شكلًا معينًا للغةٍ ما تستخدم في بيئة خاصّة أو منطقة جغرافيّة معينة تظهر فيه فروق واضحة تميّزها عن اللغة الفصحى السائدة، وقد تكون هذه اللهجة جغرافيّة إقليميّة أو لهجة اجتماعيّة طبقيّة حيث تعتبر الخلفيّة الاجتماعيّة التي تمثّل المستوى الاقتصادي والتعليمي والمهني عوامل هامة في تحديد اللهجة الاجتماعية إلى جانب اللهجة الإقليميّة»(8)، فليست العاميّة بأشكالها المتعدّدة انحراف عن اللغة الفصيحة، وإنّما هي تغيُّر لغويّ طرأ على اللغة بمرور الزمن، ومن أهم مظاهره إهمال الإعراب، والتغيّر في بعض الأصوات، والتبديل في بعض الصيغ الصرفيّة، وغيرها.
وعنوان الكتاب (تحريف العاميّة للفصحى في القواعد والبنيات والحروف والحركات) فيه حكمٌ تقويميٌّ هو أنّ اللهجات العاميّة قد أدخلت بعض الانحراف على اللغة الفصيحة، ويفهم من ذلك أنّ اللهجات ليست مستويات لغوية مستقلّة -من وجهة نظر المؤلّف- وإنّما هي انحرافات لغويّة سلبيّة ينبغي تصفيتها بردّها إلى أصلها: اللغة الفصيحة.
وقد قسّم المؤلّف كتابه إلى خمسة فصول هي:
الفصل الأوّل: في إهمال الإعراب وتحريف صيغ الأفعال والمشتقات
في هذا الفصل يقترح المؤلّف أن تتخلّص العاميّة المصريّة من بناء الفعلين الماضيين الثلاثيّين: فُعُل وفِعِل، وتعود بهما إلى الوزن الفصيح فَعُلَ؛ لكي تلحق بركب الفصحى(9)، وفي العاميّة المصريّة أيضًا الفعل الماضي المضعّف الثلاثيّ تلحق به ياء نحو: جرّيته في جررته، وخصّيته في خصصته، وشمّيت في شممت، وغيرها(10)، ويرى المؤلّف «أن تعدل [العاميّة] عن هذه الصيغة إلى أصلها في الفصحى حتّى لا تحرّف تلك الكلمات، وأمثالها عن نطقها الصحيح»(11).
الفصل الثاني: التحريف في صيغ الأسماء المتنوّعة والقصر والمدّ
صيغة (فَعُول) في الفصحى تنطقها العاميّة بضمّ الفاء (فُعُول) نحو: البَخور، والدَّلوك، واللَبوس، وغيرها(12)، ويقترح المؤلّف أنّ «هذه الأسماء جميعًا ينبغي فتح أولها حتّى تتلافى العاميّة خطأها في نطقها بضمّ حرفها الأوّل، وبذلك تلتحم بالفصحى»(13)، وكذلك الصيغة الصرفيّة (فُعْلول) فاؤها مضمومة في العربية الفصيحة دائمًا نحو: بُرْعوم، وبُلْعوم، وجُمْهور، وغيرها. ويقول المؤلّف إنّ العاميّة المصريّة تفتحها خطأ، وينبغي أن تضمّ؛ لتلحق بالفصحى(14)، ويقول المؤلّف أيضًا: «ينبغي أن تعدل العاميّة المصريّة عن استخدام هذا الاسم الموصول (اللّي)، ويستخدم مكانه موصولات الفصحى (الذي وفروعها)»(15).
الفصل الثالث: التحريف في الضمائر وحروف المعاني وأبواب من النحو والصرف
التحريف في صيغ الضمائر المتّصلة في العاميّة التي لا تستخدم ضمير التثنية نحو: قاما، وقامتا، ويقومان، ولا ضمير الإناث نحو: قمن، ويقمن، بل تستخدم العامية في كلّ ذلك قاموا، يقومون، قوموا دون تفرقة بين ضمير المذكّر والمؤنّث، والمثنّى والجمع، ويصف المؤلّف تلك الظواهر بأنّها صور شديدة التحريف ينبغي للعاميّة تلافيها؛ لترقى إلى نطق الفصحى(16)، وكذلك تقليبات الحروف في الكلمات نحو: تقديم التاء على فاء الفعل في صيغة (افتعل) فتصير (اتفعل) مثل: اترمى في ارتمى، واتروى في ارتوى، اتفضح في افتضح، وغيرها. ويقترح المؤلّف أن تعود العاميّة إلى النطق الفصيح في هذه الصيغة(17).
الفصل الرابع: التحريف في بنيات الكلم
التحريف في هيئة بعض الكلمات في العاميّة المصريّة نحو: بلبوص في العاميّة، وهي في الفصيحة بلهوص، وبغبغان في العاميّة، وهي في الفصيحة ببّغاء، حِرباية في العاميّة، وهي في الفصيحة حِرباء، وغيرها كثير. ويقترح المؤلّف تصحيح كلّ الألفاظ التي دخلها التحريف بإعادتها إلى اللفظ الفصيح(18)، وظاهرة نحت الكلم نحو: (بلاش) منحوتة من (بلا شيء)، و(كُلِّشنكان) منحوتة من (كلّ شيء كان)، و(ما وَرد) منحوتة من (ماء ورد)(19)، وقد قبل المؤلف صيغ النحت في العاميّة المصريّة، ولم يدعُ إلى تركها.
الفصل الخامس: إبدال الحروف والحركات
إبدال الحركات نحو: فتح الأوّل في الفصيحة، وكسره في العاميّة مثل: أَيش إِيش، ودَيْن دِيْن، ورَيْحان رِيْحان، وغيرها(20)، وضمّ الحرف الأوّل في الفصيحة، والعامية تفتحه نحو: أُسْيوط أَسْيوط، لُغويّ لَغويّ، مُناخ مَناخ، وغيرها(21).
ويحمد للمؤلّف في هذا الكتاب معالجته لبعض القضايا اللغويّة العلميّة نحو:
الأوّل: قبول صيغة (تمفعل) التي وردت منها ستّة أمثلة قديمًا في الخصائص لابن جنّي (ت392ه) نحو: تمسكن وتمدرع وتمنطق، وتمندل، وتمخرق، وتمسلم. وأضاف إليها أربعة أمثلة وجدها في المعجمات القديمة نحو: تمرأى، وتمرفق، وتمكحل، وتمولى، وأضاف إلى هذه العشرة ما هو مستعمل في العاميّة نحو: تمرجح، وتمحلس، وتمخطر، وتمحور، تمركز، وتمشور، وتمطوح، وتمعظم، وتمعلم، وتمكرم(22).
الثاني: تقديم تفسيرات لغويّة لبعض الصيغ العاميّة نحو: تفسيره لإحلال العاميّة للحاء في الاستقبال مكان السين أو سوف في الفصيحة، وذلك في صيغ الأفعال المضارع المستقبلة بأنّها مختزلة من كلمة (رايح) العاميّة(23).
الثالث: المقارنة بين الظواهر اللغويّة الواردة في العاميّة، وما يقابلها في اللهجات العربيّة القديمة نحو: استئناس المؤلّف بقول الفرّاء (ت207هـ): أمللتُ في لغة أهل الحجاز وبني أسد، وأمليتُ في لغة قيس وبني تميم(24).
الرابع: دقّة الاستقراء وسعة الاطّلاع والتتبّع للظواهر اللهجيّة في العاميّة سواءٌ أكان ذلك في لهجة مصر (وهو الغالب) أم في غيرها من اللهجات العربيّة.
وفي الختام، فقد بذل شوقي ضيف جهدًا كبيرًا في تبيان الفوارق في الظواهر اللغويّة التي تميّز بين اللغة الفصيحة، واللهجة المصريّة، وغيرها من اللهجات العربيّة، والخلاف معه في أنّه يرى أنّ التغيُّر اللغويّ الذي أصاب العاميّات ينبغي أن يصوّب بردّه إلى اللغة العربيّة الفصيحة غيرَ مفرّق بين المستوى الفصيح للغة، والمستوى العامّي الدارج، وفي الأخذ بهذا الرأي تفويتٌ لفهمٍ أعمقَ للتفسيرات اللغويّة لتغيّر الأصوات، والتفسيرات الاجتماعيّة، والإنثروبولوجيّة للظواهر اللغويّة التي نستطيع الوصول إليها بدراستنا للهجات الدارجة.
* * *
الحواشي:
(1) ضيف، شوقي: تحريفات العاميّة للفصحى في القواعد والبنيات والحروف والحركات، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية، 2021م، ص7.
(2) حنّا، سامي عيّاد وزميلاه: معجم اللسانيّات الحديثة إنكليزيّ - عربيّ، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 1997م، ص38.
(3) حنّا، سامي عيّاد وزميلاه: معجم اللسانيّات الحديثة إنكليزيّ - عربيّ، ص38.
(4) ح نّا، سامي عيّاد وزميلاه: معجم اللسانيّات الحديثة إنكليزيّ - عربيّ، ص37.
(5) حنّا، سامي عيّاد وزميلاه: معجم اللسانيّات الحديثة إنكليزيّ - عربيّ، ص22.
(6) حنّا، سامي عيّاد وزميلاه: معجم اللسانيّات الحديثة إنكليزيّ - عربيّ، ص22.
(7) حنّا، سامي عيّاد وزميلاه: معجم اللسانيّات الحديثة إنكليزيّ - عربيّ، ص71.
(8) حنّا، سامي عيّاد وزميلاه: معجم اللسانيّات الحديثة إنكليزيّ - عربيّ، ص37.
(9) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العاميّة للفصحى، ص16.
(10) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص19.
(11) ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص19.
(12) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص58.
(13) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص59.
(14) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص61.
(15) ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص82.
(16) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص98.
(17) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص119.
(18) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص125، ص127.
(19) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص138، ص140، ص141.
(20) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص164، ص165.
(21) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص167.
(22) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص25، ص26.
(23) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص29، ص30.
(24) انظر ضيف، شوقي: تحريفات العامية للفصحى، ص18، ص19.