د. منى بنت علي الحمود
إنها الساعات الأولى من صبيحة اليوم الأول من شهر جمادى الآخرة.. وبعد سواد ليل وطول انتظار.. أشرقت الشمس لمحياه الجميل فحسب.. بظني في تلك الساعة تقدَّمت الشمس في شروقها.. ولم يكن لها وجود إلا لتكشف للكون عن لحظات مولد طفلي. له شعر أكحل كسواد عينيه ووجنتان رقيقتان مشربتان بخمرة الغروب.. شعرت منذ تلك اللحظة برغبتي في ألا يفارق سوادي سواده.. كل يوم كان كأنه عيد جديد معه..كبر صغيري بين يدي وصنع على عيني..ولا يزال سوادي بياضه.. في مرحلة نمو أسنانه كان الوضع قاسياً عليه ولأن أنيابه شقت طريقها للظهور أولاً كان الألم عليه والمعاناة أشد.
عندما كبر صغيري تولّع بحب الذئاب ومشاهدتها.. لا أعلم لماذا غير أنه كان حيوانه المفضَّل فحسب. كان من ضمن ألعابه وملصقاته وبعض أدواته.. وعندما كبر قليلاً لقب نفسه بـ (Black Wolf).. كانت هذه الأحداث تمر أمامي مرور العابرين. لم ألق لها بالاً إلا أنها مظاهر لنمو طفل طبيعي..
صغيري اليوم أصبح مراهقاً يافعاً يعلو جسده الكثير من الشعر الغزير.. تغيَّرت ملامحه وصفاته ونبرات صوته أيضاً.. صوته أشبه بالعواء.. عيناه حادقتان تحمران أحياناً. عندما يقترب مني أو من أخته نشعر برغبته العارمة في الهجوم.. أصبح وضعه مقلقاً.. أنا بين الشك واليقين.. نعم. إنه الذئب البشري الذي يحذِّرون منه الفتيات، بل الأمهات والأخوات أيضاً.. مراراً وتكراراً كم صدحت باسمه المنابر محذِّرة منه.. وكم تزلزت المقالات والكتابات بالعديد من قصص هجومه على الفتيات.. نعم. هن الملومات بالطبع. فمن تظهر جزءاً من يدها أو تخرج منطقة من جسدها حتى ولو لم تكن قاصدة فجزاؤها هو جزاؤها. الذئب البشري لن يرحمها فله سطوته على أن يعتدي عليها ويمزقها كشاة رعناء ضالة عن طريقها.. كيف لا وهي من أوقعت نفسها بغبائها وسوء تصرفها بين يديه. ذئب يصول ويجول في كل الطرقات.. أصبح صغيري ذئباً أسودَ الكبد لكل شاة رعناء. أسود البطن لكل شهوة أمامه.. عندما تيقنت من ذلك أصبحت أندب ذلك اليوم الأسود الذي كان يوم ميلاده.. لم يدر في خلدي يوماً أنه سيصبح ذلك الذئب البشري أسود القلب.. أصبحت أرى الدنيا سوداء أمامي.. زادت مراقبتي له وأصبحت كظل أسود بين يديه ومن خلفه.. كبرت الشقة علي فأنا لا أستطيع حتى تركه بمفرده مع أخته.. كلما كبر زادت مخاوفي منه.. حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم واعتدى على «شاة» صديقتي والتي تبلغ الحادية عشرة من عمرها.. هي المسؤولة نعم.. لماذا لم تستر «مفاتن جسدها»؟ لا بل وتجلس وتتحدث مع ذئب بشري.
أصبحت مخاوفي تزيد وكيف لي أن أمسح تلك الواقعة من التاريخ.. أصبحت نسبة تكرار هذا المشهد المخيف أكثر احتمالاً وأن يتكرر مع أخته المولودة الجديدة والتي تصغره بأعوام.. فهي «شاة» قد تستثير هذا «الذئب البشري» يوماً ما بشكل أو بآخر.. وتحت وطأة هذا القلق والمخاوف التي أرهقتني قرّرت أن أنهي هذه القصة بالموت الأسود.. فغرزت أصابعي في نحر طفلي الجميل.. وأحكمت قبضتي عليه وصممت على أن أرى روحه البريئة تخرج أمام عيني.. فإذا به يقف عند رأسي يمسح جبيني الذي كان يتفصد عرقاً.. ويهدئ بيديه ثورة أنفاسي المجنونة قائلاً لي: «يمه بسم الله عليك وش تحلمين فيه».. استيقظت على صوته وكأني أسمعه للتو في الواحد من شهر جمادى الآخرة.. إنه طفلي ويافعي وشابي المسؤول.. المحافظ على حدود هويته.. المتفاعل مع مجتمعه ذكوراً وإناثاً بكل رقي وإنتاجية خلاَّقة.. له ذاته السامية والقادرة على تقبل كل آخر مختلف عنه والتعايش معه.. هو وأقرانه ورثة الكفاف والعفة كابراً عن كابر.. إن هي إلا صورة ذهنية أشبه بالسم الأسود تجرعها شباب بعض المجتمعات بكل قسوة ليكونوا معاول هدم لمجتمعاتهم فحسب.. نعم. ابني ولد ذئباً في ذلك اليوم السعيد ليكون أسود الناس.. فالذئاب حتى في عالم الحيوان لا تأتي محارمها ولا تنتهك الأعراض وتحمي قطيعها ذكوراً وإناثاً سعياً لبناء مجتمعاتها ونمائها.