د.عبدالله بن موسى الطاير
أمريكا ليست دولة واحدة بل خمسين واحدة، ولكل منها علم ونشيد وطني وأجهزة تشريعية وقضائية وتنفيذية. وكما أن أمريكا ليست دولة واحدة فإنها تُحكم على المستوى الفيدرالي والمحلي بحزبين يقوم كل منهما على أيديولوجيا خاصة به، فالجمهوري محافظ متدين وأحيانًا يجنح نحو اليمين المتطرف، والديموقراطي ليبرالي يجنح نحو اليسارية ويصل في ليبراليته إلى حد التطرف. إدارة الاختلاف بين الولايات الأمريكية التي هي في الأساس دول، وبين الحزبين وأيديولوجياتهما التي تصل حد التناقض والتنافر أحيانًا، هو الذي يبقي أمريكا قوية ومتنوعة وعلى قدر من التعايش يحفظ هيبتها بين دول العالم كقوة عظمى.
منذ تولى الرئيس باراك حسين أوباما رئاسة أمريكا كأول أمريكي من أصول إفريقية مسلمة حدث شرخ في الداخل الأمريكي بين الحزبين، فقد سيطرت فكرة أن أمريكا يحكمها مسلم أسود على عدد كبير من الجمهوريين، ولم تخل منه نفوس بعض الديموقراطيين البيض، ولكنهم أخفوه نفاقًا وخوفًا من سطوة الإعلام. حدة الانقسام بسبب باراك أوباما هي التي هيأت وصول الرئيس ترامب باعتباره صرخة احتجاج على فشل النخب السياسية التقليدية في حماية الهوية الأمريكية التي تقوم على ثلاثة مكونات هي المسيحية، العرق الأبيض ومواطنة المولودين في أمريكا مسيحيين ومن عرق أبيض.
لا ريب أن أمريكا هي أقوى دولة عرفها التاريخ بمعايير القوة التقليدية، وهي القوة العسكرية الضاربة والقوة الاقتصادية المهيمنة. ومنذ نهاية الحرب الباردة التي توجت أمريكا قطبًا أوحد، أصيبت أمريكا بجنون العظمة، فتجاهلت جهود الدول والشعوب الأجنبية التي أوصلتها إلى نهاية سعيدة للحرب الباردة، فألغت دور الدبلوماسية في العلاقات الدولية وأحاطت نفسها بتصور يقول إن الذي هزم الاتحاد السوفيتي والشيوعية عمومًا هو الثقافة الأمريكية، وطريقة الحياة الخالبة لألباب العباد في كل مكان، وأن لدى أمريكا القوة العسكرية والاقتصادية الكافية لفرض الثقافة الأمريكية وأسلوب الحياة الأمريكي على العالم.
في مقالة له عام 2002م يصور أنطوني بلينكن تناقضًا هيكليًا في الحالة الأمريكية، فكون أمريكا هي أقوى دولة على وجه الأرض فإنها الدولة العظمى الوحيدة التي تعتمد في الحفاظ على أمنها وتحقيق مصالحها على تعاون الدول والشعوب الأجنبية. وبأخذ دولة واحدة كمثال وهي المملكة العربية السعودية سنخرج بنتيجة تؤكد ما ذهب إليه بلينكن قبل الوزارة؛ فبسبب الاتفاق الذي عقد بين المملكة وأمريكا عام 1974م، باعت المملكة نفطها بالدولار، وأودعت مبيعاته في البنك المركزي الأمريكي، وهو العام الذي أسس لدولار قوي يعتبر العملة الأولى دوليًا. كما أن اتخاذ المملكة مواقف دينية واقتصادية حشدت العالم الإسلامي ضد الشيوعية والاتحاد السوفيتي أسهم في لجم تمددهما من جانب، وفي نقض أفكارهما من جانب. ليس هذا فحسب وإنما أسهم الجهد السعودي في أفغانستان بطلب من أمريكا في هزيمة الاتحاد السوفيتي، وأسهمت أسعار النفط في تفككه في الداخل الأمريكي حيث لم يعد قادرًا على تمويل عملياته وتحمل ميزانيات جمهورياته مترامية الأطراف. فهل اعترف الأمريكيون للمملكة بهذا الفضل؟
أمريكا واقعة بين تصورين، وبينهما هوة عظيمة، الأول تصورها لنفسها، والثاني تصور الآخرين لها. وبسبب هذه الثنائية التصورية فشلت حملات دبلوماسيتها العامة لتصحيح صورتها الذهنية. الأوربيون واليابانيون الذين يقاسمون أمريكا القيم ذاتها ينظرون إليها على أنها دولة بربرية بسبب عقوبات الإعدام، وبسبب انتشار السلاح الشخصي، ويعتبرونها فاشية رأسماليًا، وغير متسامحة في هذا المجال، ويرونها أقرب للتدين منها للعلمانية الأوربية، وللمحافظة أكثر منها لليبرالية. وصورتها الذهنية في العالم الإسلامي ليست وردية، فسبب دعمها الأعمى لإسرائيل على حساب الحق الفلسطيني جعلها مكروهة عند العرب والمسلمين، وزاد من حدة كراهيتها اجتياح أفغانستان والعراق دون استشارة حلفائها في العالم الإسلامي.
وعلى الرغم من أن أمريكا تنفق نحو مليار دولار سنويًا على تحسين سمعتها، نصفها لقناة الحرة وراديو سوى، والنصف الآخر لقنوات ووسائل تأثير عربية فإن الإحصاءات تشير إلى تنامي خدوش معتمة في الصورة الذهنية الأمريكية. منحنى الرضا عن سمعة أمريكا في العام تدرج وفقًا لجالوب من 44 % عام 1962 ليصل ذروته 71 % عام 2001م بسبب التعاطف العالمي بعد أحداث 11 سبتمبر ليستقر عند 37 % عام 2022م. ووفقًا للمصدر ذاته يرى 58 % من الأمريكيين أن الرئيس بايدن لا يحظى باحترام قادة العالم، ووفقًا لنيويورك بوست فإن 59 % من الأمريكيين قلقون على صحة الرئيس الذهنية.
واختم القول بملاحظتين؛ الأولى تتعلق بالنمط السائد المتمثل في سيطرة الحزب المعارض على الكونجرس في الانتخابات النصفية، ولذلك فإن الطبيعي أن يسيطر الجمهوريون على الكونجرس في انتخابات نوفر القادم، وليس لذلك أي معنى يستحق الاحتفاء، أما الاستثناء فهو باستمرار سيطرة الديموقراطيين على الكونجرس. والثانية أن الأمريكيين مولعون بنقد سياساتهم، ولكنهم لا يتحملون نقد الغرباء لأمريكا، يستوي في ذلك الجمهوري والديموقراطي.