كانت منطقة القصيم موطن صراع كبير عند تأسيس الدولة السعودية الثالثة وفي ملحمة توحيد الكيان بين الإمام عبدالعزيز –رحمه الله- وخصومه آل رشيد، وكان لبلدة الرس وقراها كالشنانة وقصر ابن عُقيِّل وغيرها دور لا يُستهان به آنذاك، حيث كانت وقعة الشنانة والأحداث التالية لها عوامل توحيد، وتتأكد أهمية (وقعة الشنانة) أو القطعة (قطعة نخيلها) عام 1322هـ، ثم ما جاء بعدها من معركة عرفت بـ(معركة الوادي) التي تلت وقعة الشنانة مباشرة، حيث كان حدث الوقعة ثم المعركة في السنوات الأولى لمرحلة التأسيس للكيان، ولهذا فهذه الوقعة والقطعة للشنانة -كما تسمى- بأحداثها المتعددة مع نتائج المعركة ذات إسهام كبير في توحيد الكيان السياسي المأمول، حيث إن لكل واحدةٍ من الوقعة والمعركة أحداث وتضحيات وشهداء، وتُعدُّ الوقعة والمعركة من أبرز مدخلات الوحدة المبكرة المشهودة ومعزِّزاتها، وتتأكد هذه الأهمية أكثر بأنها جاءت بعد سيطرة الإمام عبدالعزيز على الرياض عام 1319هـ، ومع أبرز الخصوم.
ومما هو جدير ذكره أن يعي القارئ أن حادثة (وقعة الشنانة) واجتياحها حوالي شهرين من قبل ابن رشيد تختلف عن حادثة (معركة الوادي) التالية لها، وذلك من جوانب متعددة ومختلفة في طبيعة الأحداث، ولكن ما يجمع بين الحادثتين (الوقعة والمعركة) أن لكل واحدة منهما تضحياتها وشهداءها الخاصة بها، ولهذا فهما حادثتان متكاملتان عسكرياً وسياسياً.
وحول الهدف والسبب الرئيس لما فعله ابن رشيد بالشنانة وأهلها من تدمير وقطعٍ لنخيلها فإن الهدف كان معاقبتهم على موقفهم المناوئ له والمناصر للإمام عبدالعزيز فكان تخويف أهاليها، وقد يكون قطع النخيل والأشجار بهدف إطعام جنده وخيله وإبله من سعف النخيل وجُمَّارها، وربما أنها كلها أسباب عقابية مجتمعة، وكانت نتائج أعماله ومآلاتها تحييد أهالي البلدة عن قتاله أو مقاومته.
•ابن رشيد و(تحييد) أهالي الشنانة عن مواجهته عسكرياً:
حول (وقعة الشنانة) تحديداً وَرَدَت رواياتٌ تاريخية كثيرة، ومن أبرزها ما رواه شاهد عيان مما يُعد من المصادر القوية، لا سيما حينما تُعزِّزه الكتابات التاريخية الأخرى، وشاهد العيان هو محمد الصويان المولود عام 1308هـ -رحمه الله-، وقد تحدث عن قصة وقعة الشنانة، برواية صوتية في شريطٍ تسجيلي تَحوَّل فيما بعد إلى كتابٍ بعد وفاته باسم «صفحات مطوية من تاريخنا الشعبي».
وعن هذا أورد محمد الصويان وغيره من رواة الأحداث التاريخية نماذج مما تعرض له أهالي الشنانة ووجهاؤها، وتحديداً من أهل الشجاعة والقوة أو ممن يعنيه أمر الشنانة آنذاك، وسواءً قصد ابن رشيد بهذا تأديبهم والانتقام منهم ونزع السلاح من أيديهم بسبب مناصرتهم للإمام عبدالعزيز بن سعود أم أنه أراد بهذا تحييد موقفهم، فإن النتيجة والمآلات كانت واحدة، حيث عدم مشاركة أهل الشنانة العسكرية ضد ابن رشيد فيما بعد ذلك، فقد كانت هي النتيجة التي ربما تهم ابن رشيد، وهذا ما أسهم بالفعل في تحييدهم وإقصائهم عن حضور أي معركة متوقعة قادمة بين ابن رشيد وابن سعود، وعن هذا التحييد وردت أقوال وروايات الصويان حول ابن رشيد، ومنها أنه جَمَع أهل الشنانة صفَّاً واحداً، ثم صادر جميع أسلحتهم، وكان التحييد الثاني قَتْلُه لأشهر وُجهاء الشنانة وأعيانها، ومنهم حمد الصويان وعلي الصويان وناصر البلاع وأربعة آخرون لم تُذْكُر أسماؤهم في أيٍ من كُتب التاريخ أو رواياته، ثم كان ثالث أعمال التحييد هروب بعضهم عن الشنانة وعن المواجهة المحتملة معه، وآخر صور التحييد وأقواها تربيط بقيتهم واصطحابهم معه! وتلك من صور التحييد المتعددة، وعن ذلك قال الصويان: «بعد ذلك، رَحَلَ ابن رشيد من الشنانة إلى بلدة القوعي، وهي تقع غربها، آخذاً معه من رجال الشنانة، الذين كانوا مربوطين في السلاسل، سبعة عشر رجلاً كانوا مقيدين، وترك الباقين فيها، والأشخاص الذين تركهم، هم الأشخاص الذين ليس لهم شوكة في البلد، أما الرجال السبعة عشر الذين قادهم معه وكان من ضمنهم والدي سليمان الصالح الصويان، فوصلوا إلى القوعي وهم شبه ميتين من الجوع والتعب؛ لأنهم كانوا طيلة تلك الفترة لا يأكلون إلا جُمَّاراً، وكان عَبِيد ابن رشيد يقودونهم وهم مُقيَّدون بالسلاسل». [صفحات مطوية من تاريخنا الشعبي، ص35-36].
وأقول معلقاً على هذه النصوص وما يُماثلها: لقد كان قتل ابن رشيد لبعض وجهاء الشنانة كما سبق إيضاحه، وذلك بالضرب العنيف دون قتال، إضافةً إلى هروب بعضهم من ابن رشيد من الشنانة، وتحييد اثنين وأربعين (42) رجلاً منهم بمصادرة سلاحهم ليصبحوا دون سلاح، ثم كان تربيط ابن رشيد لعدد سبعة عشر (17) رجلاً منهم بالسلاسل وتكبيلهم بالحديد أو الحبال والسير بهم مقيدين مع جيشه ممن كان قد أوكَلَ بهم بعض عبيده، كل ذلك كان كفيلاً بإنهاء أي مقاومة عسكرية من الشنانة وأهلها تجاه ابن رشيد، ولهذا كله يمكن القول: كفى فخراً بهذه التضحيات لأهل الشنانة ما حدث لهم قُبَيْلَ معركة الوادي، وكانت المعركة بعد رحيل ابن رشيد من بلدة الشنانة بيوم أو يومين أو ثلاثة فقط، وابن رشيد أصبح بهذه العقوبات لأهالي الشنانة من القتل والتشريد ومصادرة الأسلحة ناجحاً حسب تقديراته، حيث أصبح واثقاً أن هذا كافٍ في تحييد أهالي البلدة، فحسب نتائج أفعاله كان الحِرمان لأهالي الشنانة من المشاركة العسكرية فيما بعد بمعركة الوادي، وحقيقة الأمر أنه لم يَرد في الكتابات أو الروايات والوثائق تحديدُ اسم أحد من أبطال الشنانة ضمن رجال معركة الوادي، وهذا لا يعيبهم، وقد يكون هذا التحييد مما يحتاج إلى مزيد من البحث العلمي المتجرد الدقيق لمن يرى خلاف ذلك.
وواقع الأمر عن (وقعة الشنانة) أنه اجتياح وعدوان على الإنسان والمكان، وواقع هذا الحصار حسب كتب التاريخ والمؤرخين والرواة أنه لم تُطلَق بالشنانة رصاصة واحدة، والتعبير الدارج: «لم تَثُرْ [تُطْلِق] فترة الحصار بندقٌ واحدة بالشنانة» –كما يقال ويُردَّد- من الأقوال المدوَّنة والشفهية من الروايات والرواة، ولم يكن بين ابن رشيد وأهالي الشنانة معركة عسكرية على أرض الشنانة تحديداً على الإطلاق، وكان اجتياحاً وعبثاً بالبلدة فقط.
والحقيقة مرةً أخرى أن هذا الموقف أو مواقف الثبات لدى أهالي الشنانة على مبادئهم بهذه القوة والشجاعة كان مما يفوق شجاعة المعارك، حيث كان ثباتهم على مدى شهرين ولم يستسلموا فيها لابن رشيد بإعلان الطاعة أو الخضوع له مما يُعدُّ منقبةً كبرى لأهالي البلدة، وإسهاماً لا مثيل له بنصر عملية التوحيد والوحدة، وهو ما جعل أهل الشنانة يدفعون ضريبة الموقف الثابت، وهو لا يقل قيمةً وأهميةً عن الشراكة في معركة الوادي، وهذا ما سجله التاريخ للبلدة وأهلها، فالتحييد هنا لأهالي الشنانة لا يعني ضَعف التضحيات، فبالرغم من هذا التحييد فإن أحداث وقعة الشنانة أو قطعتها تعني الكثير. وكما أن لمعركة الوادي شهداء فلبلدة الشنانة بوقعتها وقطعتها قبل المعركة تضحيات وشهداء كذلك.
ومن خلال تتبع مصادر التاريخ واستقراء مراجعه تأكد لي –بصفتي البحثية- بأن أهل الشنانة الذين تفرقوا وخرجوا منها فيما بعد القطعة والتدمير للمزارع والآبار كانوا من أسر وعائلات متعددة فَقَدَت مقومات حياتها المعيشية، وهؤلاء الأهالي بهذا الواقع خسروا بأكثر من غرم وخسائر معركة الوادي المحدودة في صفوف جيش الإمام ابن سعود، وربما أن ما حدث للشنانة يوازي تضحيات الآخرين أو أكثر منها، أعني مناصري الدولة السعودية الوليدة في المعركة تحديداً، بل إن قتلى أهالي الشنانة بالضرب كانوا سبعة رجال، وكانوا بهذا أكثر من قتلى معركة الوادي، حيث كان عدد قتلى المعركة لم يتجاوز الخمسة رجال من الرس حسب أشهر الروايات التاريخية.
• (معركة الوادي) الحاسمة وتغيير موازين القوى:
وردت روايات كثيرة حول موقع هذه المعركة الفاصلة وتفاصيل أحداثها ونتائجها في تاريخ الوطن، ومنها رواية المؤرخ أمين الريحاني، وعنها كتب: «وقعة الشنانة، والأحرى أن تُدعى بوقعة وادي الرمة، هي القسم الثاني من مذبحة البكيرية، التي قضت على عساكر الدولة، وأغنت أهل نجد» [تاريخ نجد الحديث وملحقاته، ص131-132].
كما قال الريحاني وأكَّد بصورة أكثر وضوحاً: «حيث مشى الجند السعودي من القصر وراءها، فأدركوا العدو في (وادي الرِّمة)» [تاريخ نجد الحديث وملحقاته، ص131].
كما فصَّل القول حول التسمية وأكَّد على أنها معركة الوادي المؤرخ الدكتور عبدالله العثيمين وهو من أبرز المتخصصين في التاريخ السعودي، قائلاً: «قام ابن الرشيد بقطع نخيل أهالي الشنانة، ودفن آبارهم، وهدم منازلهم، وَأَسَرَ سكان الشنانة، وتسمى هذه الحادثة (قطعة الشنانة) أو (مناخ الشنانة) والمعركة وقعت في (وادي الرمة) وتبعد عن بلدة الشنانة 18 كيلاً والمعركة وقعت في يوم 18/7/1322هـ في وادي الرمة، لذا من الطبيعي أن تسمى (معركة الوادي) والتي انتصر فيها المؤسس انتصاراً حاسماً، أما الشنانة فلم تشهد وقوع معركة إنما عسكر فيها ابن الرشيد، والمؤسس عسكر بالرس» [معارك الملك عبدالعزيز المشهورة لتوحيد البلاد، ص95-96].
ومن المؤرخين المعاصرين لتفاصيل الوقعة بالشنانة وتفاصيل المعركة بالوادي المؤرخ إبراهيم بن عيسى المتوفى سنة 1343هـ وقد سمَّاها (معركة قصر ابن عُقيِّل) [عبدالله البسام، خزانة التواريخ النجدية، ج2/ص287].
وحدثت (معركة الوادي) بعد رحيل ابن رشيد من الشنانة متأثراً من بدايات تفلت جيشه ومَلَلِهم، كما ورد ذلك في كُتب التاريخ ومروياته، وكما هو تعبير روايات كبار السن عن الحدث، ولم تكن المعركة بعيدةً عن الشنانة، حيث كانت قريبة منها، في مكان يُسمى قصر البطَّاح تقريباً، في ضفة وادي الرمة وقريباً من قصر ابن عقيِّل كذلك، ومما هو معروف تاريخياً أن معركة الوادي المدوَّنة في معظم كُتب التاريخ حدثت امتداداً لحصار الشنانة وقطع نخيلها، ولذلك سمَّاها بعض المؤرخين أو المؤلفين تجاوزاً معركة الشنانة ومن باب المجاز، فالسببية والمجاورة والشُهرة كانت بحصار الشنانة الطويل وبما أصابها خلال حوالي شهرين من الاجتياح والانتهاك لحرمة البلدة.
وفي معركة الوادي هذه شارك مع جند الإمام عبدالعزيز أهالي الرس والقصيم عامة، ومتطوعون ومجاهدون من الحاضرة دون البادية التي كانت قد انسحبت من جيش الإمام زمن المرابطة قبل المعركة حسب ما هو مدوَّن بكتب التاريخ، والمقام هنا للتذكير بأهمية المعركة ونتائجها وآثارها في تعزيز مطلب توحيد بلاد نجد المنشود بعد دخول الرياض عام 1319هـ.
•(شهداء الموقعة) و(شهداء المعركة):
دوّن التاريخ وانتهى بأن الشنانة دفعت الثمن بما ورد من تضحيات سجَّلها التاريخ، وكان شهداء (وقعة الشنانة) سبعة رجال كَتَبَ التاريخ عن أسماء ثلاثة منهم من وجهاء البلدة ومن أبرزهم: ناصر بن صالح البلاع وحمد بن إبراهيم الصويان وثالثهم علي بن صالح الصويان -رحمهم الله-، وبقي الأربعة الآخرون مجهولين لم تكتب عنهم مصادر الوقعة والحادثة، وقد يكونون من أهل المواقف الرافضة لابن رشيد من أهل البطولة والشجاعة، وربما أنهم ليسوا من أهل الوجاهة في البلدة، حيث لم تُذكر أسماؤهم أو أُسرهم في أي مصادر التاريخ أو مراجعه.
وعن عدد قتلى (معركة الوادي) دُون ذكرٍ للأسماء ورد: «أما القتلى من الجانب السعودي فكانوا قلةً نظراً لطبيعة المعركة التي شهدت انسحاباً من الخصم، ولذا فإن عدد القتلى السعوديين لم يتجاوز الخمسة رجال، بينما بلغ عدد قتلى أتباع ابن رشيد من شمر اثني عشر رجلاً» [الدكتور خليفة المسعود، الشنانة ودورها التاريخي عبر مراحل الحكم السعودي، ص52].
وعن قتلى المعركة وبعض أسمائهم فقد أورد الأستاذ قبلان القبلان في مقالةٍ له بصحيفة الجزيرة وفيه عن بعض أسماء شهداء المعركة، وحسب قوله لكاتب هذا المقال عن مصادر تحديد الأسماء، فقد ذَكَرَ أن من مصادره القائد العسكري ناصر بن دغيثر قائد النجديين في معركة ميسلون –رحمه الله-، وكذلك محافظ الرس سابقاً محمد العساف والذي عُرف باهتماماته التاريخية -رحمه الله-، وفي المقال ورد أن ممن قُتل من جانب جيش عبدالعزيز بن سعود: عبدالعزيز بن محمد الرشيد، وعبدالله بن سليمان بن خميس، وأمير شقراء عبدالله بن محمد البواردي الملقب بحجرف، وأفراد من أهالي الرس [صحيفة الجزيرة، العدد 13296، بتاريخ 27 صفر 1430هـ].
وقد ذكرت مجلة المنار المصرية إحصائية عامة عن قتلى (معركة الوادي) بأنهم كانوا أربعمائة وخمسة وثمانين من رجال ابن رشيد، ومن الصف الآخر اثنان من أهل عنيزة، وأربعة من أهل الرس، وثلاثة من أهل بريدة، وستةٌ من جنوب نجد دون تحديد للأسماء [مجلة المنار المصرية، ج19/م7، ص759 -760].
ويصف المعركة بعض المؤرخين بأنها لم تكن معركة قتالٍ ومواجهة كما هي طبيعة المعارك بقدر ما هي مناوشات وانسحابات من ابن رشيد المنهزم من بلاد القصيم، وكان لعائلة ابن عقيِّل بروز وظهور في هذه المعركة وانتصارها وما فيها من استضافة للإمام عبدالعزيز، وكانت المناصرة وموقع المعركة المجاور هو ما منحهم إقطاع بلدتهم قصر ابن عقيِّل وإمارتها، وهو ما يؤكد كذلك موقع أرضية المعركة ومكانها الجغرافي.
وبهذا أصبحت (وقعة الشنانة) و(معركة الوادي) بتكاملهما التاريخي نقطة تاريخية في مشروع إعادة توحيد الكيان السعودي وميلاد الدولة السعودية الثالثة.
حفظ الله هذه الوحدة بمقوماتها ومقدساتها.
** **
- د. محمد بن عبدالله السلومي
info@the3rdsector.org