إن التربية الأخلاقية الإسلامية هي الدرع المتين، وهي النور المبين، حيث تعتبر المفتاح الرئيس لرقي الفرد ونهوض الحضارات، ولقد أكد الإسلام على الأخلاق وجعلها مرتكزاً من المرتكزات التي يقوم عليها تعاليمه، وجعل الميزان يعلو بالأخلاق فوق كل شيء، كما تزخر الآيات القرآنية في عهديها المكي والمدني بالدلالة على ذلك؛ مما جعل الاخلاق تتبوأ مكانةً رفيعة بين تشريعات الاسلام وتعاليمه السامية، فكان الوصف بحق نبيه صلى الله عليه وسلم موجزا لها حيث قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم؛ ومقصود بالخلق العظيم هنا هو الأدب العظيم، «أي: إنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه.
ولما علِم أعداء التدين من عظمة الأخلاق ودورها في حماية الأفراد من الالتفات إلى العقائد المضللة، والمذاهب الفاسدة، تركوا النخر في العقيدة الإسلامية بشكل مباشر، وذهبوا إلى خلخلة الأخلاق الإسلامية، وتفتيت الفضيلة والقيم التي ترتكز عليها أخلاق المسلم، وهكذا نرى أن المذاهب المعاصرة المضللة، كالعلمانية والقومية والماسونية ونحوها، هدفها ليس دحض الدين الإسلامي، بل هدم الأخلاق الإسلامية، ونشر الانحلال والفساد والأفكار المضللة بين أفراد الأمة الإسلامية، كونهم على دراية أن زعزعة الأخلاق هو بداية الانحلال والتحلل من الدين، وبالتالي التحلل من الالتزام الخلقي والارتباط الديني وبالولاء وعقيدته نحو القرآن والأمة الإسلامية. فالأخلاق هي الطريقة التي نتعلم بها السيطرة على غرائزنا، وبدونها تسيطر الغرائز على الأفراد، ويخرج الإنسان من الفضيلة التي أكرمه الله بها وهي الإنسانية المكرمة، إلى الحيوانية البهيمية والسعي وراء الشهوات وتحقيقها، وبالتالي فإن القيمة هي التي توجه رغبات الفرد، وتحدد له السلوك المقبول أو المرفوض والصواب والخطأ.
ولكي تقوم الأخلاق بدورها الديناميكي في الحياة الإنسانية، لابد من تكامل العلاقة بينها وبين التربية، وفي ضوء ذلك كانت دراسة هذه العلاقة محل تفكير العلماء والتربويين قديماً وحديثاً، فحاولوا في كل مرحلة فكرية تقديم التصور المناسب في رسم هذه العلاقة، وتحسس الحاجة الأخلاقية للمجتمعات والتعليم.
فالتربية الاخلاقية وسيلة مثلى للنهوض بالأمة والرقي بها؛ لأنها تغرس القيم النبيلة والسلوك السوي الرشيد الذي هو الأساس في نجاح الأمم. وفي ضوء ذلك نجد ان دور التربية الأخلاقية حيوي وذو أولوية في بناء الإنسان وتطويره وبلورة مفاهيمه، ولقد ركزت التربية على أهمية السلوك الإنساني وتطويره، فتنمية الروح الأخلاقية والسلوك السوي يحتاج إلى توجيه وتعليم، قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} (151) سورة البقرة.
فلما كانت الأخلاق الإسلامية عبارة عن «تلك المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني التي يحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان تنظيماً خيراً على نحو تحقيق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجه، فإن التربية الأخلاقية هي الترجمان الميداني الواقعي لمنظومة المبادئ الخلقية والفضائل السلوكية والوجدانية التي يجب أن يتلقنها الإنسان، ويكتسبها ويعتاد عليها منذ تمييزه وتعقله إلى أن يصبح مكلفاً ويخوض بها في خضم الحياة.
والمكانة العظيمة للتربية الأخلاقية في الإسلام؛ تتمثل جلياً في تعاليمه فكثير من الشواهد القرآنية توضح هذه المكانة قال تعالى في محكم التنزيل: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (45) سورة العنكبوت، وقال أيضا: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (103) سورة التوبة، لذلك عند تطبيق هذه التعاليم» أخلاقية العبادة» التي تحمل في جنباتها روح الاخلاق ينعكس أثرها مباشرةً في السلوك الإنساني فتصبح الدرع المتين الذي يحمي العلاقات ويقوي الروابط.
ومن باب التعظيم لمكانة التربية الأخلاقية في الإسلام نجد الدعوة صريحة الى محاسن الاخلاق كأساس للخيرية والتفاضل يوم القيامة وميدان للتنافس بين العباد على أفضلها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحبكم إليّ، وأقربكم مني في الآخرة مجلساً، أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقاً، الثرثارون المتفيهقون المتشدقون) (أخرجه الترمذي).
وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ربّى أصحابه على حسن الخلق، فكان القدوة والمثل الذي تحتذي به التربية الإسلامية في العناية في التأسيس لها فكراً وتطبيقياً، حيث يجمع المربون المسلمون على أن «الغرض الأول والأسمى من التربية الإسلامية: تهذيب الخلق وتربية الروح».
اذن فتهذيب الخلق وتربية الروح من أهم وسائل الترقية بقيم الناس وأخلاقهم والتي لها دورها في تعمير الأرض وتغيير الأنفس إلى الأقوم، فالقيم الأخلاقية هي ضوابط لممارسات الإنسان الثقافية وهي موسومة بالتعالي والثبات وهذا الثبات للقيم الأخلاقية في الإسلام هو ما يجعلها الدرع المتين والنور المبين ومنبع الحضارة والرقي للفرد والجماعات.
فتقدم الأمم والشعوب مرتبط بعظم التربية الأخلاقية بينهم وعلى مدى تجسيدها في مؤسساتهم التربوية المختلفة ابتداء من الاسرة نهاية الى المجتمع، ولا شك أن استمراريتها ضرورة ملحة تمليها ظروف العصر المتغيرة، وقد أوجز أمير الشعراء «أحمد شوقي» سبب التقدم الحقيقي، والبقاء للشعوب في قوله:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن هذه التربية الأخلاقية تعتبر فلتر التصفية في حياة الفرد المسلم فهي تعمل على تزكيته وتنقيته من كل الشوائب لان التزكية في مدلولها تهذيب النفس باطناً وظاهراً، في حركاته وسكناته»، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}(9-10) سورة الشمس، ويقول سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى} (14-15) سورة الأعلى، وهذا التهذيب يؤدي به الى النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.
وقد أشار الغزالي الى أثر الاخلاق في سلوك الفرد وقال «أما أثرها في سلوك الفرد فلما تزرعه في نفس صاحبها من الرحمة والصدق والعدل والأمانة والحياء، والعفة، والتعاون، والتكافل والإخلاص، والتواضع».
أما أثرها في سلوك المجتمع؛ فالأخلاق أساس لبناء المجتمعات الإنسانية إسلامية كانت او غير إسلامية، قال تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (1-3) سورة النصر، فالعمل الصالح المدعم بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر في مواجهة المغريات والتحديات من شأنه أن يبني مجتمعاً محصناً لا تنال منه عوامل التردي والانحطاط، وليس ابتلاء الأمم والحضارات كامناً في ضعف إمكاناتها المادية أو منجزاتها العلمية، وإنما في قيمتها الخلقية التي تسودها وتتحلى بها».
وختاماً فالتربية الأخلاقية الإسلامية هي الدرع المتين الذي بدوره يحافظ على الفرد المسلم، ويحقق غايتها في الحياة الدنيوية ليصبح انساناً خيّراً يشعر ويتلذذ بالسعادة قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97) سورة النحل، ولا يحظى بها الا المسلم الذي حسن إسلامه وفي الحياة الأخروية تتحقق السعادة الأبدية والفوز بالجنان قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (43) سورة الأعراف... وهي الغاية القصوى لهذه التربية الأخلاقية، لذلك لابد من التأكيد على ضرورة مراجعة واقعنا التربوي في ضوء ما سبق من الحديث عن مكانة التربية الأخلاقية لمعالجة مواطن القصور والانحراف السلوكي، والحد من التناقض بين المؤسسات التربوية في الميدان الأخلاقي، حيث إن هذا التناقض يضعف الحماس لها وعدم ترجمتها إلى سلوك عملي من خلال المواقف والعلاقات الاجتماعية التي بدورها تشكل الازدواجية في شخصية الفرد، والانحراف والفساد في المجتمعات.