عبدالوهاب الفايز
الأوضاع الداخلية الأمريكية المتراجعة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا بدأت تؤثر على سلوكها السياسي والاقتصادي، ولن تمكنها من تغليف رغبات ونزعات الهيمنة الإمبريالية المتجذرة في تاريخها.
وتدهور القوى العظمى يجر معه مخاطر عالية على السلام العالمي. فالدول العظمى المتراجعة تتخبط في توجهاتها، وتتعاظم نزعة الهيمنه لديها. وهذا لاحظه المؤرخ نيال فيرغسون في مقاله الأحد الماضي في بلومبيرغ، (كيف يمكن أن تتحول الحرب الباردة الثانية إلى الحرب العالمية الثالثة؟)، يستنتج أن المنافسة تجري بين القوى الكبرى لتشكيل الحرب الباردة الثانية. وفي تحليله لوثيقة (إستراتيجية الأمن القومي) الأخيرة وجد أن كلمة (منافسة) وردت 44 مرة في الوثيقة الجديدة، مقارنة بـ 25 مرة فقط في طبعة عام 2017. وهذا ما أشار إليه، في أكثر من مناسبة، أحد رموز السياسة الواقعية جون ميرشايمر الذي يرى أن صناع السياسة الخارجية أصبحوا مهووسين بنزعة التدخل في الشؤون السياسية العالمية.
الخوف على السلام العالمي حقيقة واقعة بعد سيطرة النظرية السياسية الميكافيلية التي تتبنى مبدأ المنفعة الشخصية في ممارسة السياسة على سياسة أمريكا الخارجية، فما هو في مصلحتك استخدمه، وهي تبتعد عن المدرسة السياسية اليونانية القديمة التي ترى السياسة ممارسة للمصلحة العامة. فالرئيس بايدن همه الأول الانتصار لكبريائه السياسي. وطبيعي أن يفكر بهذا الأمر بعد سنواته الطويلة في الصراعات والمساومات السياسية. فالحزب الديمقراطي في سبيل البقاء في السلطة غير مكترثين بمصالح الشعوب ولا بمستقبل السلام في العالم.
الذهنية الميكافيلية الغربية بصورتها المتجددة ربما تفسر لنا تتالي التصريحات والتسريبات من الإدارة ومن حلفائها الديموقراطيين في الكونجرس تجاه السعودية بعد موقفها من زيادة إنتاجها من النفط، ومنها تصريح عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي الديمقراطي كريس ميرفي الذي قال (هناك دول في المنطقة مستعدة لتولي بعض مسؤوليات السعودية في المنطقة). وهذا تصريح ملغوم برغبة الاستقواء وإثارة المشاكل السياسية، ويعتقد أن الذهنية العربية من السذاجة وضعف القدرة على قراءة الواقع، وكأنه ما زال متأثرًا بكتاب (العقل العربي) للمتعصب اليهودي الأمريكي الكاره للعرب رفائيل باتاي الذي روَّج له حلفاء إسرائل في واشنطن مما جعله ولسنوات طويلة مرجع السياسيين الأمريكان.
القيادة السعودية لديها موروث الحكم العميق الذي يساعدها على اتخاذ المواقف السياسية التي تخدم مصالح الشعوب. ماذا سيكون الموقف في حال مضت السعودية في الاستجابة للمطالب الأمريكية وقدرت نية ومطية موقف الحليف والصديق الأمريكي في موضوع الربيع العربي؟ ماذا لو سلمنا بسلامة نوايا أمريكا التي تعلنها وتبشر بها وهي الحق والحرية للشعوب؟ كيف وضع مصر والبحرين وبقية الدول العربية؟ هذه النوايا المعلنة لم تعد مؤثرًا قويًا في الشعوب العربية والإسلامية بعد أن رأت الفواجع التي حلت في أفغانستان والعراق.
لقد استخدمت أمريكا تفوقها وجبروتها العسكري للإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين واستبدلته بحكومة إيرانية، وأطاحت بطالبان في أفغانستان.. وبعد عشرين عامًا من الدمار والقتل المتبادل أعادت لها الحكم. والنتيجة: خسارة تريليونين دولار، وملايين الضحايا والجرحى من الشعوب، بالذات من الشعب الأمريكي الذي خسر الآلاف من أبنائه ولديه الآن الآلاف من المعاقين والمرضى النفسيين.
الحمد لله أن التاريخ يحفظ للسعودية، قيادة وشعبًا، رفضها التام المعلن لاحتلال أفغانستان والعراق، والقيادة السعودية طبقت مبادئ سياستها الخارجية الواضحة ولم تجامل حلفاءها الغربيين في هذه المبادئ. ولهذا تجد هذه السياسة الواضحة الاحترام والتقدير ممن بقي شاهدًا من رجال الدولة والسياسيين الأمريكان الذين يحظون بالاحترام والتقدير ويمثلون القيم الأمريكية الحقيقية التي لم تتلوث بمرض الصراعات الحزبية الشعبوية المتعطشة للسلطة والتي تشكل الخطر الحقيقي على مستقبل أمريكا ومكانتها العالمية. (انظر المقال المهم: حتى لا نخسر السعودية، لكل من ديفيد إتش. روندل ومايكل غفولر، مجلة نيوزويك، 21 أكتوبر 2022).
هذه الحكمة السعودية الواضحة في التعامل مع الأصدقاء والحلفاء والأعداء لها ما يدعمها من مجريات الأحداث التي يسوقها الزمن والمواقف من الأحداث الجارية. واعتراف الرئيس باراك أوباما الأخير يوضح سلامة الموقف السعودي تجاه قضايا النفط المزعجة لأمريكا. أوباما اعترف بخطأ الحكومة الأميركية في عدم دعم الاحتجاجات الخضراء الإيرانية عام 2009. واعترف بخطأ التدخل في ليبيا.
وليته اعترف بخطأ إدارته في السكوت على مجزرة الكيماوي حيث قتلت قوات بشار الأسد أكثر من 1400 إنسان رغم أنه حدد الخط الأحمر المشهور، وأيضًا ليته اعترف بخطأ السكوت عن تورط الميلشيات الإرهابية الإيرانية في النزاع السوري، وكذلك سكت عن دعم روسيا لبشار الأسد.
أخطاء متلاحقة للإدارات الأميركية بدايةً من احتلال العراق وتدميره، إلى التهور الذي نراه الآن في نسف العلاقة التاريخية مع الأصدقاء والحلفاء!
ختامًا يمكن القول إن الحرب الاقتصادية والسياسية ستكون المهيمن على سلوك القوة في العقود القادمة، وهذا يفسر تسارع رغبة الكثير من الدول المحورية إلى تبني آليات وسياسات جديدة، اقتصادية ومالية، مثل الخروج من مظلة الدولار، ومن نظام التسويات المالية الدولية الذي تهيمن عليه أمريكا ويشكل أهم أدواتها في الحروب الاقتصادية، ومثل إعادة التموضع الإستراتيجي في العلاقات الإقليمية والدولية.. إنه عالم ما بعد القرن الأمريكي وأحادية القطبية.