أ.د.عثمان بن صالح العامر
كان لدى أحد الأصدقاء الأعزاء قناعة قوية بأن السفر لن يضيف شيئاً له في حياته، ويمكن الاستعاضة عنه وتحقيق نفس النتائج والحصول على ذات الفوائد بمشاهدة الطبيعة والتنقل بين مدن العالم وموانئها ومطاراتها وأسواقها ورصد سلوكيات إنسانها من خلال المنافذ الإعلامية المختلفة، عشعشت هذه الفكرة في رأسه سنوات طويلة من عمره حتى أقنعه صديق ثالث يملك فن التأثير وقوة الحجة بتجربة السفر ولو لمرة واحدة خارج أرض الوطن ليعايش ما يعتقد أن مشاهدتها عبر الشاشة كافياً للاستمتاع بها ولا حاجة للشخوص إليها، وما أن خاض صاحبنا هذا المتترس خلف الشاشات تجربته الأولى في مضمار السفر والسياحة حتى تغيرت لديه النظرة بشكل جذري واقتنع أن ما استقر في ذهنيته خطأ جسيم، فقد أضاع سنوات عمره وهو حبيس هذا الوهم الكبير، إذ ليس هناك أدنى مقارنة بين الوقوف الشخصي على المكان من جهة ومشاهدته عبر قنوات الإعلام ومواقع الانترنت والبرامج الوثائقية والاستطلاعات السياحية من جهة أخرى. هذا الكلام ينجر في نظري حين عقد المقارنة بين (التعليم الحضوري) و(التعليم عن بعد) بل إن هذا النوع الأخير من التعليم أشد من المثال الوارد أعلاه، ذلك أن عضو هيئة التدريس والمعلم مهمتهما صقل العقول وبناء الشخصية والحفاظ على الهوية فضلاً عن إعطاء المعلومة وتزويد الطالب والطالبة بالمعارف المتخصصة، وهذه كلها مهام جسام تحتاج إلى العالم الواقعي لا الافتراضي (وجهاً لوجه) فللجسد لغته، وللحوار أثره، وللنظرة وقعها، وللكلمة وقتها ومبرراتها داخل القاعة أو في الصف ولذا لا مقارنة أبداً بين جودة التعليم في النموذجين.
نعم لا بد أن نعترف بالدور الرائد والرائع للتعليم عن بعد إبان أزمة كورونا وما صحبها من احترازات وقائية كان لها بعد الله أبلغ الأثر وأقواه في تقليل الإصابات والوفيات، كما يجب أن نفتخر بالتجربة السعودية في هذا الباب، ولكن أن يدرس الطالب اليوم مواد علمية عميقة وصعبة كالرياضيات والفيزياء في السنة الأولى له في الجامعة عن بعد جراء قلة أعضاء هيئة التدريس فهذا في نظري إخلال بالعملية الأكاديمية وخرق لمفاهيم الجودة وسبب في تدني مستوى الطلاب خاصة حين تكون الامتحانات جميعاً حضورية، قل مثل ذلك عن إجراء مناقشات الرسائل العلمية عن بعد للتوفير الاقتصادي وعدم تكليف الجامعة سكن وتنقل المناقش الخارجي مع أنه حق له حسب ما نص عليه النظام، ولم يستثنِ كون المناقشة عن بعد أو أنها حضوري، ولذلك لا نجعل التعليم عن بعد بديلاً جاهزاً لجميع المشاكل التي تمر بها الجامعة، والتي يمكن تجاوزها وحلها دون أن يكون هناك ثمن باهظ يدفعه طالب التعليم الجامعي، فزمن كورونا غير ما ننعم به الآن ولله الحمد والمنة.
دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.