أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الأنموذج الفذ من هذا الجنس البشري ونزَّاع تتناغم مواهبهم مع قدراته، أو تتهيأ الفرص التي تقدر بها مواهبهم.. والإنسان قدرة بلا موهبة وحش من الوحوش؛ وهو موهبة بلا قدرة مجموعة من العقد النفسية.. ورحم الله البشر فشذ من يوجد بينهم وهو بلا موهبة ولا قدرة.. موهبة الإنسان هي طموحه العاقل الذكي، يبدأ هذا الطموح خيوطاً قزحية من عقل المفكر وذهنيته المتوقدة، ثم يتحول إلى عواطف عاقلة جياشة في قلبه وبين حناياه؛ وهذا النوع من الوجود يسميه الفلاسفة وجوداً بالقوة؛ لأنه طموح كامن، ولكنه ينتظر ولادة أخرى وهي ما يسميه الفلاسفة بالوجود بالفعل، ويتوقف الوجود بالفعل على أسباب وقدرات: إما القدرة الجسمية، وإما المالية، وإما قدرات معنوية أخرى؛ فإنْ تناغمت المواهب مع القدرات فحينئذ يولد النوع المثالي الفذ من الجنس، وإنْ تخلَّقت القدرات ولم تطاوع فذلك هو الطموح العاجز، وحينئذ يولد النوع المعقد من هذا البشر.. إنَّ الإنسان تنفجر مواهبه عقلاً وخيالاً وذكاء وعاطفة؛ فيرشح نفسه للسؤدد، ولكن هناك قدرة قد لا تطاوعه؛ وهي أنْ يكون (حسيباً نسيباً) في مجتمع تغذى بالعصماوات العربية التي لم تفلح قبل الإسلام، وليس باختيار الفرد أن يولد كما يريد.
تحرير الأحكام النقدية:
قال أبو عبدالرحمن: جملة (علم الجمال) مرادفة في المعنى لجملة (فلسفة الفن)، والفلسفة عامة توصف بأنها (نقدية)؛ لأنها تفحص الشيىء لتظهره على ما هو عليه، ومن ثم تعرف مزاياه وعيوبه من مختلف المعايير التي يقاس بها.. إنَّ الضباب شيىء ذاتي في فكري وخيالي وعاطفتي، وليس هو شيئاً موضوعياً في الأعيان حتى يجوز لي أنْ أتمنى بأنْ تكون كل الأعيان ضباباً.. يقول (راما) في الملحمة الهندية: ((انظري يا حبيبتي سيتا إلى هذه النبتة المتسلقة اللدنة كيف تسترخي على الجذع القوي كما ترخين أنت ذراعك على ذراعي تعبة)).. أترى أنَّ راما لا يعرف سر استرخاء النبتة؟.. و(علي محمود طه) في (القمر العاشق): هل كان يجهل أنَّ القمر لا يعشق، والشعراء القدامى عندما غاروا من النسيم الذي يعبث بجدائل متيماتهم هل كانوا يجهلون أنَّ النسيم لا يعشق؟.. والمتنبي عندما غار على الهودج من التفاتة ناقته هل كان ساذجاً إلى هذا الحد؟.. کلا إنها قضايا ادعائية جاءت عن حب الضباب وفهمه معاً.
الغرابةُ ليست ضداً للفصاحة:
قال أبو عبدالرحمن: يرى الخطيب القزويني في كتابه (الإيضاح) ص72-73، وغيره من البلاغيين: أنَّ من شرط فصاحة الكلمة المفردة: أنْ لا تكون غريبة، ويفسرون الغرابة: بأنْ تكون الكلمة: وحشية لا يظهر معناها فيحتاج في معرفته إلى أنْ ينقر عنها في كتب اللغة المبسوطة.
قال أبو عبد الرحمن: هذه غفلة منهم عجيبة جداً؛ لأنَّ الكلمة الغريبة من ناحية فصاحتها نفياً أو إثباتاً کالكلمة الشائعة ولا فرق؛ وإنما الفرق في حال الأفراد من الناس، لا في حال المفردة من الكلام.. وذلك الفرق من ناحيتين: أولاهما أنَّ بعض الناس حفظ المفردة وفهم معناها، فلم تكن غريبة عنده، و بعضهم لم يسمع بها أو سمع بها ولم يفهم معناها؛ فهي غريبة عنده.. وأخراهما أنَّ المفردة توصف بالغرابة؛ لأنَّ عامة الناس يجهلونها؛ فالغرابة ليست صفة موضوعية للمفردة؛ وإنما هي صفة ذاتية لمن يجهل بها، وعلى هذا فقد تكون الكلمة فصيحة ولكنها غير شائعة الاستعمال، فتكون فصيحة غريبة، وإنَّ كل كلمة فصيحة مهما كانت شائعة الاستعمال ستظل غريبة عند من يجهلها، وإذن فالغرابة نسبية وهي لا تضاد الفصاحة.. وفي القرآن الكريم غريب كثير وهو قمة الفصاحة.
قال أبو عبدالرحمن: لا ريب أنَّ الفصاحة تعني الإفصاح عن المراد، والذي يأتي بمفردة محتملة الدلالة لا يخلو معنى مفردته من عدة أمور يهمنا منها ثلاثة: أولاً أنْ تكون لها دلالة محتملة من لغة العرب ولو بتخريج بعيد فهذه غير فصيحة المعنى ؛ لأنَّ إفصاح كل فرد يتم بلغة قومه التي يتكلمون بها؛ فإذا تعذر وجود معنى للكلمة من لغة قومه، أو وجد لها معنى في اللغة، ولكنه لا يناسب سياق كلامه كان معنى ذلك أنه لم يفصح لقومه عن مراده بلغتهم.. والثاني أنْ يكون لها دلالة لا احتمال فيها، ولكن هذه الدلالة لا يعرفها عامة الناس، وربما المتخصصون في اللغة إلا بعد البحث؛ فهذه غريبة المعنى فصيحته في آنٍ واحد.. والثالث أنْ يكون لها دلالات ولكن مراده لإحدى هذه الدلالات يعتوره الاحتمال، وهذا لا يخرج عن هذه الأمور: أولها أنْ يكون لهذه الكلمة دلالات كثيرة وليس فيها ما يناسب سياق كلامه حتى نعرف مراده؛ فحكمها حكم الوجه الأول الآنف الذكرغير فصيحة المعنى.. وثانيها أنْ تكون هذه الدلالة المتعددة المحتملة تناسب كلها أو بعضها سياق كلامه ولا مرجح لإحدى تلك الدلالات على أنها المراد دون غيرها كالشطر الآنف الذكر من رجز العجاج فهذه فصيحة، ولا يضر كون كل من الدلالتين محتملاً، أو كون كل من الاحتمالين لا يتم إلا بتخريج بعيد؛ لأنَّ صحة كل من الاحتمالين يعني أنه أفصح عن مراده بأحد معنيين يعرفهما العرب وبعد التخريج حصل به الإفصاح عن معنى مراد.. وليس مقياس الفصاحة أنْ يكون المعنى قريباً أو بعيداً؛ بل المقياس أنْ يكون مفهوماً بلغة العرب.. أما بعد المعنى فيعني الغرابة.. وقد قلتُ: إنَّ الغرابة غير الفصاحة، وعلى هذا لا يرجح الاحتمال إلا بعد دلالةٍ على المعنى الأقرب دلالة إذا كان المعنى الأبعد أليق بالسياق، وبهذا أيضاً تعرف أنَّ المفردة توصف بالفصاحة من ناحيتين: حروفها، ومعناها، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى والله المستعان.
وكتبه لكم/ (محمِّد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) -عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-