كثير من الكتب يدور مؤلفوها حول فكرة أساسية ومجموعة أفكار فرعية تصبُّ لمصلحة هذه الفكرة، وقد أشرنا سابقاً إلى كتاب «خرافة التنمية»، وأن الفكرة الرئيسية هي «دور الشركات في السيطرة على العالم»، وكتاب «العالم عام 2050» كانت «أن التقدم سيكون في الربع الشمالي من العالم نتيجة نقص الموارد».
في هذا الكتاب لجوناثان ليونز الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون (2010) القضية تختلف، حيث إن الكاتب لا يعطيك فكرة معينة ولكنه يسرد سرداً تاريخياً ممتعاً لتخرج أنت ما تريد من أفكار، وكأنه يفتح لك صندوقاً من الجواهر ويقول اختر ما تشاء.
لا أستطيع أن أجزم أيهما أفضل في عالم الكتابة.. الكاتب الذي يدور في فلك فكرة واحدة ويقودك إليها بسلاسة، أم الكاتب الذي يحرّك ذهنك ويتحرك معك في منطقة مفتوحة تاركاً لك الفرصة بأن تفكر كيف تشاء، وفي اللحظة نفسها ماسكاً بخيوط اللعبة بحيث متى ما أوشكت على الخروج، أعادك في اللحظة المناسبة.
ما يميز الكتاب أن مؤلفه يتكلم بتجرد ويبين بشكل أو بآخر بأن الحضارة الإنسانية ليست إلا بناءً تراكميًا للحضارات التي مرت عبر التاريخ. فنظرية مثل نظرية بطليموس والتي تقول إن الأرض مركز الكون وسادت في أوروبا لدرجة أن تحولت إلى عقيدة عند الكنيسة، لم تكن لتنتهي لولا أن عالماً مسلماً يدعى نصير الدين الطوسي مدير مرصد مراغة الذي أمر بإنشائه هولاكو، نشر مراجعات مهمة لفلك بطليموس استفاد منها كوبرنيكوس بعد ثلاثة قرون، لينسف النظرية من عليائها، فكل حضارة إنسانية ليس لها خيار إلا أن تأخذ من الحضارة التي قبلها.
الترجمة ودورها في البناء الحضاري للأمم، فكما أنها كانت الأساس التي نقلت العلم من أوروبا للعرب في العهد العباسي، فإنها انتقلت ثانية إلى أوروبا عن طريق مترجمين عباقرة مثل اديلارد اوف باث، وجيرار أوف كريمونا، ومايكل سكوت وغيرهم. فالترجمة مثل سحابة تنتقل من مكان إلى آخر لتزخ بديمها على الأرض لتنبت أفكاراً وأخلاقًا وقيمًا، فالحضارة الإنسانية لا يمكن أن تنتقل خطواتها دون الترجمة.
دور الحاكم في التقدم الحضاري يعتبر أمراً ملموساً وواضحاً، فإذا كان لدينا هارون الرشيد، والمأمون، فإن ملوكاً أمثال روجر الذي «شجع الإدريسي على رسم خريطة العالم»، وفردريك الثاني ملك صقلية والذي يقول عنه المؤلف: «إن عهده شكل محطة مهمة على الطريق في رحلة الغرب الطويلة إلى التطورات العلمية العظيمة في القرن السابع عشر»، ساهما في نقل الحضارة إلى الغرب.
وأخيراً...
الكتاب جميل...
يستحق أن تعطيه جزءًا من وقتك.
ما بعد أخيراً...
الحضارة الإنسانية بناء تراكمي...
كل حضارة تكمل ما بدأته التي قبلها، لا يوجد شيء اسمه حضارة مركزية في العالم.