أ.د.حمزة بن قبلان المزيني
كان لقائي الأول بكتاب «الاستشراق» من تأليف البروفيسور الأمريكي، الفلسطيني الأصل، إدوارد سعيد حين كنت طالبًا في جامعة تكساس في أوستن. فقد دعتْه الجامعة، في شهر إبريل 1979م، لإلقاء محاضرة تعريفية بكتابه «الاستشراق» الصادر في 1978م. وحضرتُ تلك المحاضرة التي حضرها جمع غفير من أساتذة الجامعة وطلابها وغيرهم.
ألقى البروفيسور إدوارد سعيد محاضرته وأجاب على المداخلات والأسئلة التي وجهت إليه بعدها. وبدا البروفيسور سعيد حينها وسيمًا فارع الطول مفوَّهًا يتكلم بلغة إنجليزية رفيعة لم أعهد مثلها في محاضرات اللسانيات، وكانت لغتُه تعج بكلمات طويلة متعددة المقاطع مرصعةً بكثير من مصطلحات «ما بعد الحداثة» التي كانت غريبة عليّ,
وأسرعت بعد انتهاء المحاضرة مباشرة إلى إحدى المكتبات التجارية في الشارع الموازي للجامعة وطلبت نسخة من الكتاب استلمتُها بعد أسبوعين تقريبًا وأرَّخت تسلُّمي لها في 9/5/1979م. فقرأته بنَهَم في فترة وجيزة، ثم لم أعد إليه بعد ذلك إلا في فترات متقطعة بحثًا عن شيء معيَّن فيه.
ولما رجعت من البعثة وجدت أن الدكتور كمال أبو ديب ترجمه إلى اللغة العربية في 1981م، ولم أهتم بشراء الترجمة اكتفاءً بالأصل، لكني قرأت كثيرًا من المقالات الصحفية والبحثية في نقد أوجه القصور في تلك الترجمة، وأهمُّها الإغرابُ الأسلوبي المتكلَّف.
ثم شُغلتُ عن الكتاب بأبحاثي وترجماتي في اللسانيات وغيرها، كما شغلت عن متابعة النقاش عن ترجمة الدكتور أبو ديب وترجمة الدكتور محمد عناني التي نشرت في 2006م. أما ما أعاد إليّ الاهتمام به فهو أن صحيفة الجارديان البريطانية نشرت سلسلة من المقالات عرضت فيها «أفضل مئة كتاب غير روائي (طوال التاريخ)» The 100 best nonfiction books، وكان كتاب «الاستشراق» أحد تلك الكتب، وجاء ترتيبه الثامن في هذه السلسلة المئوية الرائعة. وكتب روبرت ماكروم Robert McCRum في 2016/3/21م، عرضًا ضافيًا له ضِمن هذه السلسلة الشائقة تضَّمن الحديث عن أهميته والأثر الذي تركه في عدد من التخصصات الإنسانية - التاريخية والنقدية والثقافية والأنثروبولوجية.
وذلك ما دفعني للعودة إلى قراءة الكتاب مرة أخرى، وقررت الاطلاع على ترجمة الدكتور كمال أبو ديب التي قوبلت بذلك النقد الشديد ومراجعتها في ضوء النسخة الأصل. وبدا لي الخلل في هذه الترجمة منذ الصفحات الأولى، وهو انطباع عزَّزتْه بعض الدراسات الأكاديمية التي تمثلت في رسائل ماجستير ودكتوراه كشفت عن كثير من أوجه القصور فيها.
ثم اطلعتُ، في سياق ذلك الاهتمام المتجدد بالكتاب، على ترجمة الدكتور محمد عناني فوجدتُها ليست بعيدة - بمعايير أخرى - عن ترجمة أبو ديب، وهذا ما عززته مقالات صحفية وبحثية كثيرة، وبعض رسائل الدكتوراه التي كُتبت عن الترجمتين كذلك. وكتبت بعد ذلك مراجعة من جزأين نشرتْها صحيفة الرياض (انظر من فضلك: جريدة الرياض، 16/7/1437هـ/23/4/2016م، و30/7/1437هـ/7/5/2016م). وكان لها صدى طيب عند من تفضلوا بقراءتها. ثم ظهرتْ «ترجمة» ثالثة من عمل نذير جزماتي في 2016م وهي التي لا يمكن وصفها إلا بالعبث المحض.
وأمام ما يكاد يكون إجماعًا على قصور الترجمات الثلاث عزمتُ على ترجمة «الاستشراق» من جديد فاتصلت بالناشر لأصلِه بالإنجليزية وأبديت رغبتي في ترجمته وطلبت الإذن بذلك والحصول على حقوق النشر لإحدى دور النشر العربية التي سوف أتواصل معها لنشر ترجمتي. فأخبرني الناشر الأصلي بأن حقوق الكتاب تحوَّلت إلى دار النشر البريطانية المشهورة «بنجوينPenguin التي نشرت طبعة جديدة منه في 2003م تتضمن فصلاً تمهيديًّا كتبه إدوار سعيد قبل وفاته بأشهر في 2003م. تحدث فيه عن الكتاب وعن نظرته في موضوعه في ضوء المستجدات السياسية والثقافية بعد خمس وعشرين سنة من نشره لأول مرة. ولما كتبت إلى «بنجوين» بطلب الإذن بترجمته ونشره أجابني المسؤولون عن حقوق النشر بأن أسرة إدوارد سعيد هي مالكة حقوقه الآن. فكتبت إلى السيدة مريم سعيد بالطلب نفسه، وأُبلغت بعدها بأنها أعطت حقوق الترجمة العربية لـ»مؤسسة الأبحاث العربية» اللبنانية وهو ما يمنع إعطاء الحقوق لدار أخرى.
فعاودت الاتصال بدار «بنجوين» البريطانية فاقترحتْ عليَّ الاتصال بـ»دار الآداب» اللبنانية التي نشرتْ ترجمات بعض كتب إدوارد سعيد ظنًّا بأنها ربما ستكون قادرة على الحصول على إذن جديد بترجمته. فاتصلت بالأستاذة رنا إدريس المسؤولة عن «دار الآداب» وعرضتُ عليها فكرة ترجمته مرة أخرى، فرحبتْ بحماس بذلك ووعدتني بالاتصال حالاً بأسرة إدوارد سعيد من أجل الحصول على حقوق النشر لدار الآداب. لكن الأستاذة رنا إدريس تأخرت كثيرًا في إطْلاعي على مسار التواصل بأسرة إدوارد سعيد، ولم تخبرني بعد ذلك بشيء على الرغم من رسائلي المتعددة، حتى تلقيت رسالة منها بعد أشهر عدة تقول فيها إن «دار الآداب» لا تستطيع نشر ترجمة جديدة للكتاب لأسباب قانونية.
لكن المفاجئ أني علمتُ بعد ذلك أن «دار الآداب» نفسها حصلت على حقوق نشر ترجمة جديدة للكتاب، وأن أسرة إدوارد سعيد اشترطت بأن تترجمه لجنة من أربعة مترجمين موثوقين. وظل الأمر على هذه الحال لأكثر من خمس سنوات. وتبيَّن بعد ذلك أن «دار الآداب» تعاقدت مع مترجم واحد، وكان ذلك بعد الاتصالات المتبادلة بيني وبين الأستاذة رنا إدريس وتصريحها بعدم إمكان نشر ترجمة جديدة لأسباب قانونية. ومن الواضح أن هذا يخالف الانطباع الذي كان يصوره حماس الأستاذة رنا إدريس لفكرتي، ثم تأكيدها باستحالة نشر ترجمة أخرى له.
ولم أجد عند ذلك إلا أن أتمنى أن تكون الترجمة الجديدة التي ستنشرها «دار الآداب» أفضل من الترجمات السابقة، وأن تعطي هذا الكتاب الفذ ما يستحقه من عناية ودقةِ أداء باللغة العربية، وأن يكون حظها أفضل من سابقاتها.
وكنت بدأت في ترجمة كتاب «الاستشراق» في أثناء ما كنت أراسل دور النشر طوال أكثر من سنة للحصول على إذن بترجمته، وهي عادتي في الكتب التي أنوي ترجمتها؛ إذ كنت أترجمها في الوقت نفسه الذي أحاول فيه الحصول على حقوق النشر لإحدى دور النشر العربية التي ستتولى نشر ما أترجمه، وهو ما يحصل دائماً.
وانتهيت من ترجمة الكتاب، وراجعتُه أربع مرات، وزودتُه بهوامش إضافية كثيرة تتناول بعض القضايا التي أثارها إدوارد سعيد، كما وضعت مسارد بأسماء الأعلام فيه والقضايا التي عرضها والمصطلحات التي استعملها. ثم أرسلت بعض ما ترجمتُه منه إلى بعض الزملاء والأصدقاء من أساتذة الجامعات والمهتمين بموضوعه، وقرأوه وتفضلوا عليّ بإبداء آرائهم في ترجمتي وكانت تعليقاتهم جميعًا على الترجمة إيجابية ومشجعة وداعمة.
واتصل بي في أحد الأيام، على غير سابق معرفة، الأستاذ الدكتور محمد شاهين، الأستاذ في قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة الأردنية في عمّان، وطلبت منه المساعدة في تسهيل حصولي على إذن من أسرة البروفسور إدوارد سعيد لنشر ترجمتي بعد أن أخبرني بالعلاقة الجيدة بينه وبين إدوارد سعيد وأسرته بعد وفاته. وكان آخر ما وصلني منه إخباري بأن «دار الآداب» تعاقدت مع مترجم، لم يذكر اسمه، لترجمة الكتاب.
وقبل أشهر قليلة جاءت الأخبار بأن الدكتور محمد عصفور، الأستاذ في الجامعة الأردنية والمترجم المشهور أنجز الترجمة وأنها صدرت في بيروت. لكن هذه الترجمة «الرابعة» لم تقارب، كما ذكرت في المراجعة التي كتبتها لها، الوفاء بنقله إلى اللغة العربية نقلاً يليق به من حيث الدقة في تأدية النص ولا من حيث الأسلوب المغري بقراءتها (انظر من فضلك: حمزة المزيني، «ترجمة جديدة لكتاب الاستشراق»: لم تَفِ بأمنية إدوارد سعيد ولا بوعود محمد شاهين/ ملحوظات على ترجمة الدكتور محمد عصفور لكتاب الاستشراق»، المجلة الثقافية، 4-5/3/1444هـ، 11-12/3/1444هـ).
والسؤال المهم الآن: هل أحس بالندم على قضاء أكثر من سنة في ترجمة هذا الكتاب الفذ، لا سيما بعد أن اكتشفتُ ما يكاد يكون خداعًا من «دار الآداب»، وغيرها؟
وجوابي: لا. مؤكَّدَة. ذلك أني استفدت كثيرًا من قراءة الكتاب بغرض الترجمة بأكثر مما يمكن الوصول إليه منه بالقراءة المجردة مهما كانت دقيقة. كما استفدت كثيرًا من محاولة صوغ أفكار البروفيسور سعيد الدقيقة بلغة عربية أظن أني بذلت جهدي لتكون مؤدية، وهي الأفكار التي صاغها المؤلف، كما يعرف من قرأ الكتاب بالإنجليزية، بأسلوب إنجليزي عالٍ فخم.
لذلك كله أعُدُّ ترجمتي لكتاب «الاستشراق» مكسبًا لغويًّا لي، كما أعدها، من وجه آخر، تكفيرًا عن خطيئة انصرافي عنه طوال ما يقرب من ثلاثة عقود.
وكتاب «الاستشراق» جدير بالقراءة والاحتفاء والعناية، وجدير بأن يدخل الثقافة العربية من جديد. لكن «ترجمتي» ستظل حبيسة «القرص الصَّلب» إلى أن يأذن الله بما يشاء.