سهام القحطاني
«حيناً الأفكار تُصبح مشانق لأصحابها»!
الأصل في الثقافة «الاختلاف» لا «الأحادية»، ولعل فكرة «الأحادية الثقافية» نشأت على أثر «العقد الاجتماعي» وحدة الجماعة من خلال إقفال إطار الفكر الثقافي ليظل محافظاً على «نمط الاتجاه» كون هذا الإقفال هو حماية «لأصالة الهوية والمحافظة على نقاء تلك الأصالة، وهو حماية ونقاء استتبعهما نظام صارم ضدّ الغيرية كونها عدواً محتملاً للتشجيع على كسر إطار الإقفال والعبث بنمط الاتجاه الإجباري.
ولذا سنَّ نظام الحماية على أن أي خروج على إطار وحدة ثقافة الجماعة هو خروج على «هويتها» وهذا الاقتضاء الشرطي الذي يلزم ثانيه على تحقق أوله كان حاصله «النبذ والإقصاء»، كدال على علاقة المقاطعة بين المجموع والمختلف، وفي ذات الوقت هما أقصد النبذ والإقصاء «صيغة حماية وعقاب».
والعلاقة بين هوية الجماعة وثقافتها علاقة فيها الكثير من التداخل والالتباس، فهل كلاهما يمثلان جذراً واحداً؟
وهو سؤال يجعلنا نقف أمام صورتين رمزيتين، صورتان تتحركان للمنافسة على الأولية في صياغة العقد الاجتماعي، أولية تتجلى في السؤالين الآتيين: هل الثقافة جزء من الهوية وبالتالي فهي مؤسس الأولية وتُصبح الهوية جزءاً من الثقافة وليست معادلاً لها؟ أو أن الهوية جزء من الثقافة وبالتالي فإن الهوية هي مؤسس للأولية وبذلك تُصبح الثقافة جزءاً من الهوية لا معادلاً لها؟
ولو عدّنا إلى مصدر تأسيس أي عقد اجتماعي سنجد أن «الجذب كقيمة تأليف وتآلف» يبدأ أولاً من «تكامل الاحتياجات» أو كما أسماها أرسطو «التدبير الذاتي» فكل ناقص ينجذب إلى ما يكمله وبعد استقرار منظومة تكامل الاحتياجات تبدأ الجماعة الموحدة من خلال تلك المنظومة في التفكير بوضع نظام لحماية منظومة الاحتياجات واستدامتها وهو ما يعني البحث عن أفكار تؤسس لتلك المنظومة تعريفاتها وقوانينها، لكن يظل النظام التنظيري ذا أثر ضعيف على الحماية والاستدامة ما لم يُدعّم ويساند بتطبيقات حيّة وممارسات متكرر لها قابلية التواتر وفي ذات الوقت رمزية تمثيل وتميّز وهي رمزية مع مرور الوقت تُشكل علامة تاريخية للجماعة.
والمقصود بالعلامة التاريخية للجماعة طرائق التفكير والسلوكات والطقوس والتي تتحوّل إلى رمزيات لهوية خاصة تفصلها عن الغير.
وحسب المسار السابق يمكن أن نعتقد أن الثقافة هي التي تمثل الهوية باعتبار تواترها واستدامتها وسهولة ترميزها وتطويرها، والهوية مجردة من الثقافة - طاقة الفعل- كائن صامت، كون الثقافة هي التي تمنح للهوية «الحركة والفعل» كما يذهب ريكور.
ولذا تسعى دوماً الأقليات إلى اعتراف الأكثرية بثقافتها من خلال حق الممارسة لأن تلك الممارسة هي التي تضمن لها البقاء الحي الكيفي وليس الكمي.
إذن انسلاخ الهوية من ثقافتها هو «اندثار لتلك الهوية» فالثقافة هي «طاقة الإحياء لأي هوية»
وهذا الاقتضاء الشرطي وجود لوجود بين الهوية والثقافة كان ولا يزال خطأ سُفكّت الكثير من الدماء في ظل قميصه أو شُرّعت في غايته قوانين التطرف.
فحسب ما يرى «توماس هوبس» «إن الأصل في العلاقات البشرية ليس التعارف، بل التناكر والتدافع» وهو قول لا يُمكن التسليم به على المطلق ولعله استنتاج قائم وفق الواقع المدروس أو استنتاج مؤطر بظرفيات، وقول هوبس كان دافعاً لخروج بعض النظريات الفكرية الخطيرة مثل صراع الحضارات هانتنغتون ونهاية التاريخ لفوكوياما.
لكن ألكسندر كوجييف الفيلسوف الفرنسي من أصل روسي كانت له قراءة مختلفة في أصل العلاقات البشرية القائمة على الاختلاف فليس دوما هي مصدر تناكر وتدافع؛ لأن الأنا لا تملك كل شيء حتى تستغني عن الغير والغير لا يملك كل شيء للاستغناء عن الأنا، ولذا يظل الطرفان في حاجة كل منهما أو ما يسميها كوجييف «العلاقة الدورية» كما حدث بين العرب وغير العرب بعد الفتوحات الإسلامية.
ومع ذلك فوجود تلك العلاقة النفعية المتبادلة لا تعني التساوي في مرتبة القيمة، بل خلق التراتبية بدلاً من العدمية، وهو ما يعني اختباء الصراع بين القفازين وليس التخلص منه.
لكن بالنسبة لهانتنغتون يرى أن الغيرية «مصدر صراع و فناء» كونها حاملاً ثقافياً مختلفاً تسعى لفرض ثقافتها لاعتقادها أنها الأصح وما دونها خطأ وخطيئة، وهذه النظرة الخطيّة لثقافة الآخر التي تفترض نية عداء الغيرية هي التي أسست مبدأ «الفوضى الخلاَّقة» لتطبيقه على دول الشرق الأوسط من خلال «شخصنة الثقافة الإسلامية».
إن نظرية صراع الحضارات أو الثقافات ليست نظرية تخلّقت في مراكز البحث، بل هي «توجه إنساني منذ القدم»؛ فكل جماعة كانت تفترض بأن «الغيرية» كل غير لا يتمثّل بثقافتها ويمارس طقوسها» عدو محتمل» تمارس عقابه من خلال الشخصنة الثقافية.
وهذا القياس ظل باقياً عبر العصور رغم تطور حضاراتها، لكن خطورة هذا القياس في أحادية مصدره.
فأنا الجماعة تُجد ّول تابعها وفق إيمانه وممارسته لثقافتها وتجرده من تلك التابعية متى ما تخلى عن إيمانه وممارسته لثقافتها وتطبيق عليه آلية الحماية الفاسدة، وفي المقابل تُطبق ذات المعيار على الغير، فالغير عند أنا الجماعة تُلغى صفته الأجنبية بمجرد أن يكون تابعا لثقافتها إيمانا وممارسة.
فالثقافة هي القيمة الوجودية لأي جماعة والخروج عليها هو تهديد لبقاء الجماعة وتكاثرها ومن هنا لجأت الجماعات إلى تأسيس آلية «حماية» من خلال « الشخصنة الثقافية» كعلامة عقابية» للمختلف.
وتاريخ الأدب العربي قديما وحديثا وحتى الواقع يمتلئ بالنماذج الذي طبُقت عليها آلية «تلك الحماية الفاسدة» وهو سلوك لا يتعلق بالجماعات الرجعية، بل سلوك عام عند كل الجماعات وهذا حديث المقال القادم - إن شاء الله.