د. محمد بن عبد الله المشوح
أعمار النَّاس دومًا تُقاس بمنجزهم، وعملهم، وما يقومون وينهضون به في حياتهم من مآثر وأعمالٍ جليلة.
الخالدون في هذه الحياة هم من يُسَطِّرون في حياتهم أمجادًا باقية، وآثارًا لا تُمحى ولا تزول.
فقد المشهد الثَّقافي والسُّعودي والعربيّ قبل أيَّام شخصيَّة ثقافيَّة بارزة، كان لها أعظم الأثر وبالغه طوال ما يزيد على أربعين عامًا مؤثِّرًا ومتأثِّرًا.
لقد رحل الشَّيخ عبدالمقصود خوجة بعد هذا السِّجلِّ الحافل المديد من الأعمال الثَّقافيَّة المتتابعة، والمبادرات العلميَّة المثمرة، منذ أن انطلقت الاثنينيَّة عام ألف وأربعمائة وثلاثة للهجرة (1403هـ)، الموافق (1983م)، تحتفي بالمثقَّف، وتكرِّمه وتشجِّعه وتحفِّزه، ترفع مشعلًا من مشاعل الثَّقافة في كلِّ أسبوع؛ لتنير الدَّرب لمن يرغبون في الانضمام إلى قافلة الثَّقافة الكبرى في مملكة العز والعلم.
لقد كانت اثنينيَّة الشَّيخ عبدالمقصود خوجة أحد المعالم السُّعوديَّة البارزة في مدينة جدَّة، ومن مآثره ومحاسنه أنَّه اختطَّ منهجًا استثنائيًّا فريدًا فيها يقوم على أمرين؛ الاحتفاء والتَّكريم للشَّخصيَّات، ونشر الإبداعات.
وبهذين الجناحين استطاعت الاثنينيَّة أن تحفِر لها اسمًا بارزًا في المشهد الثَّقافي السُّعودي والعربي.
وإذا كان الاحتفاء بالشَّخصيَّات وتكريمهم أحد الرَّوافد الكبرى الَّتي نهضت بها الاثنينيَّة فإنَّ نشر الإبداعات عبر ما عُرف بالأعمال الكاملة للعديد من الشَّخصيَّات الثّقافيَّة والفكريَّة والأدبيَّة يعتبر أحد المآثر الباقية والخالدة لهذه الاثنينيَّة.
لقد أثبتت اثنينيَّة خوجة أنَّ العمل المدنيّ الذي ينهض به مواطنون صالحون يعاضدون ويؤازرون الجناح الثّقافي الرّسمي الّذي تنهض به المؤسّسات الثَّقافيَّة السُّعوديّة المتعدّدة، وعلى رأسها وزارة الثّقافة صار أمرًا ضروريًّا ومهمًّا؛ لتؤكّد أنَّ العمل الثَّقافي عملٌ دائمٌ ومستمرٌّ، وتنهض به المؤسَّسات الرَّسميَّة في بلادنا الغالية المَملكَة العربيَّة السُّعوديَّة، مع ما ينهض به غيورون على الثّقافة ومحبُّون لها أمثال الشَّيخ عبدالمقصود خوجة، وحظيت الاثنينيَّة كغيرها من المنتديات والصّالونات بالتّشجيع والمؤازرة من قِبَل المؤسّسة الثّقافيّة السّعوديّة الَّتي تُدرك وتستشعر دومًا أهميَّة الجناح المدني الثَّقافي.
وما هذه الندوة التي تعقد اليوم إلا استشعارًا للدّور الرّائد الذي نهضت به الاثنينيَّة خلال مسيرتها، ولقد غدت الاثنينيَّة هي إحدى اللّوحات الثّقافيّة الجميلة التي تملأ فضاء المَملكَة العربيّة السُّعوديّة عبر عشرات الصّالونات والمنتديات المنتشرة في خريطة بلادنا الغاليَّة.
وتمثِّل هذه الاثنينيَّة عمادة مستحقَّة للصَّالونات والمنتديات في المَملكَة العربيَّة السُّعوديَّة بصفتها الأقدم والأبرز وأكثرها استمرارًا وانتظامًا.
وبرحيل عميدها الشّيخ عبدالمقصود خوجة تفقد الصّالونات والمنتديات في المَملكَة العربيَّة السّعوديََّة أحد أبرز مهندسي هذه الصَّالونات ورُبَّانها، وكان له أثرٌ بالغ في تشجيع العديد من الصَّالونات والمنتديات واستمرارها ومحاولة جمع شتاتها والاستفادة من بعض الصّالونات لبعض.
لقد سعى الرَّاحل عبدالمقصود خوجة إلى إحياء تعاون حقيقي فاعل بين المنتديات والصّالونات في المملكة، ودعا إلى عدَّة لقاءات شاركت فيها جميعًا بين أصحاب الصَّالونات والمنتديات؛ وذلك في منداه الشَّهير الأثير «الاثنينيَّة».
وكان ذلك في يوم: 20، 21/ 2/ 1426هـ، الموافق: 30، 31/ 3/ 2005م، والثَّاني دعانا مرَّة أخرى بتاريخ: 23/ 1/ 1428هـ، الموافق: 11/ 2/ 2007م.
كما كان هناك اجتماع موسَّع في مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطنيّ بمكَّة المُكَرَّمة بتاريخ: 22/ 3/ 1427هـ، الموافق: 20/ 5/ 2006م عن الصَّالونات والمنتديات، وشاركت فيه بورقة بعنوان «الحوار في المنتديات والصالونات الثقافية».
وكان يحمل طموحًا كبيرًا لتحفيز الجميع نحو التّعاون المشترك بين أصحاب الصالونات والمنتديات حيث يقول: «وقد سعى الأساتذة أصحاب المنتديات الثَّقافيَّة جاهدين لتوجيه المسيرة لمنع الازدواجيَّة، وتفعيل الأهداف التي تمَّ الاتِّفاق بشأنها، ومن أبرزها؛ مراعاة المبادئ الخمسة التي سارت عليها الاثنينيَّة، وأشرت إليها آنفًا.. بالإضافة إلى إصدار مجلَّة مشتركة، وإيجاد قاعدة بيانات موحَّدة تسهم بدورها في بلورة موقع موحد على الشَّبكة العنكبوتيَّة «الإنترنت».. ثم العمل على ربط هذه المنتديات بعضها ببعض والاستفادة من إمكاناتها المتاحة بما يمنع الازدواجيَّة، وفي الوقت عينه تبادل الخبرات، والتَّنسيق بشأن رصد فعالياتها بالصَّوت والصُّورة والكلمة المطبوعة، والعمل على استضافة أصحاب الفضل الذين يشرف بهم أيّ منتدى في أكبر عدد من المنتديات الأخرى قدر المستطاع.. وتتَّسع دائرة الأماني إلى ترجمة ما يصدر عن هذه المنتديات إلى اللُّغات الحيَّة لتبقى الكلمة كما أراد لها الحقُّ سبحانه وتعالى لغة الوصل بين عباده، والآمال أكبر والأماني التي في الأذهان أعظم إذا عملنا كمؤسسة بأسلوب يضمن استمراريَّة العطاء، وفى السِّياق نفسه نأمل من المؤسسات الثَّقافيَّة والإعلاميَّة المقروءة والمسموعة والمرئيَّة تخصيص جانب من وقتها لتغطية نشاطات هذه المنتديات باعتبار أنَّها واحات خير تجمع بعض المثقّفين لما فيه صالح الوطن والمواطنين وليست بأقلّ من الفعاليات الأخرى التي يتاح لها الكثير من الوقت والسَّاحة الإعلاميَّة». يقصد أصحاب الصّالونات والمنتديات.
وكان مشاركاً في كلِّ مناسبة تشخّص حال الثّقافة ومعطياتها وتطلُّعاتها ومن ذلك مشاركته في الملتقى الثقافي الأوَّل المنعقد في الرِّياض 1425/3/11هـ 2004/7/25م وقدم ورقة بعنوان «واقع المؤسسات الثَّقافيَّة»
وحضرتُ لقاءين أقامهما الشّيخ عبدالمقصود خوجة في منزله لأصحاب الصَّالونات والمنتديات، وكان حريصًا على مشاركة جميع أصحاب المنتديات في هذه اللِّقاءات، وتقديم الرُّؤى والمقترحات التي تفيد أصحاب هذه الصَّالونات والمنتديات.
لقد استطاعت اثنينيَّة الشَّيخ عبدالمقصود خوجة أن تُقدم أنموذجًا يُحتذى في الفعل الثَّقافيّ المحمود الذي تقدِّمه في بلادنا المَملكَة العربيَّة السُّعوديَّة عبر شخصيَّات وأعلام استشعروا واجبهم الثَّقافي نحو وطنهم، فقدَّموا العديد من المبادرات، ورسموا صورة استثنائيَّة جميلة اختصَّت بها هذه البلاد السُّعوديَّة المباركة.
ولا شكَّ أنَّ الاثنينيَّة سوف تبقى محفورة في ذاكرة النّاس والأجيال؛ لقاء أعمالها المحمودة، ومبادراتها المتكرَّرة في التَّكريم والاحتفاء بالشَّخصيَّات المتعدََّدة.
كما أنَّي شخصيًّا ممتنٌّ للرَّاحل فلقد كنت من أوائل من استفاد من منهجه وطريقته في الاحتفاء والتَّكريم واختطت ثلوثيَّة مُحَمَّد المشوِّح خطًّا موازيًا لمسيرة الاثنينيَّة فكان خير عون ومشجِّع لنا في كلِّ ذلك.
وسبق أن ألححت عليه مرات عديدة أن نقيم حفلًا تكريميًّا لائقًا له في الثلوثية فكان يعتذر ويتمنع رحمه الله.
لقد سعى بنظراته الثَّاقبة وحسِّه الثّقافيّ الصّادق ووعيه بأهميّة التّوثيق لهذا العمل والفعل الثّقافي المحمود، مؤكّدًا على ضرورته حتّى لا يُطوى في صفحات النّسيان؛ حيث قال في أحد لقاءاتنا:
«كما إنَّه من الضروري ألَّا تذهب أعمال هذه المنتديات هباءً، ويتراكم عليها غبار النّسيان بمضي الوقت، فنحن إزاء عمل لن يتكرّر؛ لأنّه رصد مباشر لجزء من تاريخنا الأدبيّ المعاصر، وحتمًا سوف تُثبت الأيَّام مكانته في المستقبل، لا سيَّما بالنّسبة للدّارسين والباحثين والمهتمّين بتطوّر الأدب وتاريخه في المملكة، ولله الحمد نعيش الآن فترة خصبة بالنّسبة للتّوثيق؛ تسجيلًا بالصّوت والصّورة، والأسطوانات المدمجة، والانترنت، بالإضافة إلى الكتاب الذي يعتبر من أهمِّ وسائل الحفظ والتّوثيق وتداول المعرفة».
كما كان يسعى إلى إيجاد مجلَّة تهتمُّ بالمنتديات والصّالونات؛ حيث أعلن في أحد اللّقاءات التي جمعتنا وقال:
«وقد يرى جمعكم الكريم أن من أوثق الآليات للرَّبط بين المنتديات وروَّادها الأفاضل، ومن يهتمُّ بالسَّاحة الثّقافيّة، إصدار مجلّة شهريّة أو فصليّة، تُعنى بشؤونها وتكون همزة وصل بينها، على أن يتمَّ بحث أمور تمويلها وتحريرها وطباعتها وتوزيعها عن طريق جهة مختصَّة تقدِّم الدّراسات الخاصّة بذلك، ثم الشُّروع في العمل الفعليِّ من خلال العدد صفر وما يعقبه من إصدارات».
لقد كان من أوائل أهدافه وأمنياته وصول صوت المثقَّف السُّعوديِّ حيث يقول:
«وصول صوت المثقّف السّعودي إلى الموقع الذي يستحقّه لما لهذا البلد من رسالة بدأت بـ «اقرأ» وستظل مرتبطة بنا كخير أمّة أُخرجت للنّاس.. تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر... وما عليها من واجبات وما لها من حقوق بما حباها الله من مقدّسات نحن مؤتمنون على صيانتها والحفاظ عليها وعلى مكانتها السَّاميَّة في نفوس المسلمين أينما كانوا.. فالعالم ما زال في حاجة إلى ينابيع النّور التي تشعُّ من حلقات العلم والثَّقافة التي عمَّت الدُّنيا قاطبة.. معتبرًا أنَّ الدَّور الذي على عاتقنا لا يمكن إلا أن نعتبره دور ريادة خلقت لنا وخلقنا لها.
وأتطلع أن تكون أفكارًا متجانسة لا تغفِل الانفتاح الثَّقافي الذي يعيش أوجَّه في هذا العصر الذي ليس له بوّابات دخول أو خروج غير مفاتيح الكمبيوترات الَّتي أسهمت إلى حدٍ كبيرٍ في تذويب الجدران الحديديَّة، ووصول الكلمة أيًّا كانت للمتلقي في كل زمان ومكان.. ومن هذا المنطلق تأتي الدَّعوة للإفراج عن الكتاب؛ حتَّى يتجاوز خطوط الرَّقابة التَّقليديَّة، ويصل إلى أيدي المثقَّف السُّعودي بكلِّ يسر وسهولة، وبالتَّأكيد نحن ضدَّ الإسفاف، والكتاب الرَّخيص مضمونًا وفكرًا، والَّذي يمسّ ثوابتنا ودولتنا ورموزها بأيِّ شكل من الأشكال.. بيد أنَّ الرَّقابة الحقيقيَّة ينبغي أن تنبع من داخل المثقَّف لأنَّه هو القادر بما لديه من علم وفضل على تمييز الغثِّ من السَّمين، وبالتَّالي الدِّفاع عن الحقِّ وبيان قوَّته ومكامن أهميَّته في حياة» انتهى.
لقد كان الهمُّ الوطني لدى الرَّاحل حاضرًا بقوَّة يسعى في كل مناسبة إلى إبراز المثقَّف السُّعوديّ ونتاجه وأثره مستلهمًا خبراته الإعلاميَّة والثَّقافيَّة المختزنة لديه من خلال عمله في المديريَّة العامَّة للإذاعة والتّليفزيون.
لقد كانت المنتديات والصّالونات واستمراريَّتها والتَّنسيق بينها والتَّعاون بينها أحد أهمّ الأمنيات التي كان يسعى لها حيث يقول:
«كما أحسب أنَّه من الضَّروري التَّنسيق بين المنتديات الأدبيَّة، والأنديَّة الأدبيَّة الثّقافيَّة؛ للاستفادة القصوى من الضُّيوف الذين نحظى بلقائهم خاصَّة الذين يشرفوننا من خارج المملكة بإتاحة الفرصة لهم ولمجتمع المثقّفين من لقائهم في بعض مدن المملكة للتَّعرف عليها من خلال تلك الزِّيارات، بالإضافة إلى الاحتكاك بمختلف ألوان الطَّيف الثّقافي، وتمتين أواصر المحبّة والتَّلاقح الفكريّ، والعمل في ذات الوقت على تبادل الزِّيارات مع نظرائنا في الدُّول العربيّة الشَّقيقة، توثيقًا لعرى التَّعاون لما فيه خير الثَّقافة والفكر.
لقد اختطَّ الرَّاحل في اثنينيَّته منهجًا معتمدًا على الطَّرح الثَّقافيّ البعيد عن الإسفاف أو الإساءة أو التَّجريح أو الخوض في أمور لا فائدة منها؛ وهو بهذا ملهم وقدوة لجميع أصحاب المنتديات والصالونات حيث يقول عن منهجه:
«أودُّ التَّأكيد عنِّي أن «الاثنينيَّة» ظلّت دائمًا وأبدًا بعيدة كلَّ البعد عن الخوض في غمار السِّياسة والمذهبيَّة والعرقيّة وتصفية الحسابات ومسائل الدِّين الذي هو عبادة وأسلوب حياة أمر بها الحقُّ سبحانه وتعالى، ورسولُه صلى الله عليه وسلم، ولا مكان لتحويره والالتفاف حوله لأيِّ غرض آخر.. وهذا من أهمِّ الأسس التي سارت عليها «الاثنينيَّة» وحقَّقت -وللهِ الحمد- ما أمكن من إنجازات وفق هذا الخطِّ الواضح الذي لن نحيد عنه بإذنه تعالى» انتهى.
وختامًا؛ فإنِّي آمل أن يتحقَّق للاثنينيَّة بعض الآمال التَّالية؛
أن تتَّجه أقسام الدّراسات الأدبيّة في الجامعات السّعوديّة إلى دراسة الفعل الثّقافي الذي نهضت اثنينيَّة عبدالمقصود خوجة طوال سيرتها الطَّويلة.
الاستمرار في مسيرتها، ولو على الأقلّ السَّير على طريقة الاثنينيَّة في النَّشر للأعمال الكاملة وغيرها، والتي انفردت بها عن غيرها من الجهات والمؤسسات ودور النَّشر.
ابتكار طرق توثيقيَّة جديدة، والاستفادة من المادَّة الإرشيفيَّة الضَّخمة التي تحتفظ به الاثنينيَّة خلال مسيرتها.
الاستفادة من تجربة الاثنينية، وهي تجربة رائدة من قِبَل الصَّالونات والمنتديات الثَّقافيَّة المَملكَة العربيّة السُّعوديَّة في منهجها وطريقتها ونجاحها واستمرارها.
رحم الله الراحل الشيخ عبدالمقصود خوجة فلقد حمل همًّا ثقافيًّاً كبيراً، تفاعل وأنتج معه اثنينيَّته الناجحة التي غدت أحد مفاخر بلادنا السعودية.
وعطاءات رجالاتها وشخصياتها الصادقة.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.