أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
في الخِضَمِّ المتلاطم من الصراع بين الشرِّ والخير في مسرحيَّة الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر Jean-Paul Sartre، 1905- 1980)، بعنوان «الشيطان والرحمن»، يصادف القارئ، منذ بدايات المسرحيَّة، عددًا من المواقف يبدو فيها رجال الدِّين- بحسب الكاتب- أشبه بالدَّجَّالين، الذين يستغلُّون عواطف الشَّعب الدِّينيَّة لتكوين ثرواتهم الخاصَّة، وفي سبيل تصبير الفقراء والمصابين والمنكوبين على ما لَحِقَ بهم، ومن أجل تسيير أمورهم واقتيادهم طائعين مُذْعنين. يتجلَّى ذلك في النقاش الذي دار بين أحد أبطال المسرحيَّة (ناستي)- الذي يمثِّل الإنسان الفقير الثائر، الملتزم بقضايا شعبه ومواجعه- والأُسقف، أمام جمهور الشَّعب، إذ يقول ناستي للأُسقف:
- «كنيستُك (...)، تبيع مِنَحَها للأغنياء, أأنت تأخذ اعترافي؟ أنت تحلُّني من خطاياي؟ إنَّ روحك مصابةٌ بداء الثعلب, إنَّ (...) يَصِرُّ بأسنانه عندما يراها, يا إخوتي، لسنا بحاجة للكهنة. كلُّ البَشَر يستطيعون أن يُعَمِّدوا، كلُّ البَشَر يستطيعون أن يُحِلُّوا، كلُّ البَشَر قادرون على التبشير. الحقَّ أقول لكم: كلُّ البَشَر أنبياء، وإلَّا فلا وجود (للموجِد).
- الأُسقف: هو, هو, هو, يا للكُفر»(1)
والمهمُّ هنا هو ما يُثبته (سارتر) من وظيفة الملتزِم (الثقافي أو الأدبي) في تنبيه الشَّعب إلى ما يجري من حوله.
ولكن أيكفي التنبيه؟
إنَّ الالتزام الوُجوديَّ السارتريَّ يطالب الملتزِم بأن ينقل التزامه إلى حيِّز التنفيذ الفعلي. وهذا ما يَبرز من خلال المسرحيَّة في مواقف (ناستي)، الملتزِم بقضايا شعبه ومواجعه. وفي حواره التالي مع الكاهن الفقير (هنرييك) ما يدلُّ على ذلك المبدأ الالتزاميِّ الصارم:
- «ناستي: أنا لا أعرف غير كنيسةٍ واحدة: المجتمع الإنساني.
- هنرييك: مجتمع البَشَر أجمعين، إذن، مجتمع كلِّ المسيحيِّين، الذي ألَّف بينهم الحُبُّ، أمَّا أنت فإنك تدشِّن مجتمعكَ بمذبحة.
- ناستي: لمَّا يَحِن الوقت للحُب. سنشتري هذا الحقَّ بأن نسفكَ الدَّم.
- هنرييك: لقد حرَّم الله القسوة؛ إنَّه يمقتها.
- ناستي: والجحيم؟ ألا تعتقد أنَّ أهل النار يعاملون بقسوة؟
- هنرييك: قال الله: مَن يَسْتَلُّ سَيفًا...
- ناستي: يموت بالسَّيف... نعم سنموت بالسَّيف جميعًا، ولكن أبناءنا سيشاهدون مُلْكَ الله على الأرض. هيَّا اذهب فلستَ خيرًا من الآخَرين»(2)
وإذا كان الشَّرُّ متأصِِّلًا في البَشَر، والخير مستحيلًا، كما تُصوِّر المسرحيَّةُ في مَواطن عديدة، فإنَّ من الخير- إنْ وُجِد- ما هو خيرٌ سلبيٌّ؛ يُعيق الالتزام بالحقِّ والواقعيَّة في النظر إلى الأمور، كموقف الفلَّاحين المتديِّنين الذين يقابلون الشَّرَّ القادم بالخير والحُبِّ(3)؛ مَّما يفرض على الملتزِم توجيههم الوجهة الواقعيَّة، ولو استدعَى ذلك اللجوء إلى القوِّة. والمعوِّق الآخَر: رجال الدِّين ودجَّالو الغيبيَّات؛ ممَّا يجعل مهمَّة الملتزِم صعبةً في إقناع أبناء الشَّعب بزيف ما تُحشَى به رؤوسهم، مثلما حدث عندما حاول (تيتزل)، الكاهن الدجَّال، أن يوزِّع صكوك الغُفران على أبناء الشَّعب ليَبْتَزَّ أموالهم. وحين حاول بطل المسرحيَّة (كوتز) أن يُفهِّم الجمهور حقيقة لعبة تيتزل الدنيئة لم يُفلح، بل لقد عاداه جمهور الشَّعب، على حين استطاع تيتزل أن يزيد حُبَّ الشَّعب إيَّاه وإطاعته.(4) وقد يكون تضليل الشَّعب عن طريق السِّحر والشعوذة وما أشبه ذلك، مثلما نجِد في (اللوحة الحادية عشرة) من المسرحيَّة، إذ تَحُكُّ السَّاحرةُ بِيَدٍ خشبيَّةٍ ظهور الفلَّاحين، زاعمةً أنَّهم بذلك سيُصبحون معصومين من التعرُّض للجراحات. حتى لقد استُغِلَّت هذه الطريقة لدفعهم إلى الحرب ومنعهم من الفرار.
هكذا تصوِّر مسرحيَّة (سارتر) واقع الصراع الوجودي والطبقي في مجتمعه، ووظيفة الملتزِم أخلاقيًّا وثقافيًّا حيال التغيير.
** **
(1) سارتر، (د.ت)، الشيطان والرحمن، ترجمة: سامي الجندي، (بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع)، 34- 35. حذفنا بعض الكلمات غير اللائقة، وعدَّلنا أخرى.
(2) م.ن، 38- 39.
(3) انظر: م.ن، 186- 188.
(4) انظر: م.ن، 136- 144.