د. شاهر النهاري
كنت مندهشاً من جماليات المكان، فالقصر يقع وسط حدائق غناء، باسقة الأشجار، وألوان الأزهار متنوع يغري الزوار بالتقاط الصور بجانبها لتخليد اللحظة، بل إن بعضهم ينصب قائماً خشبياً، ويظل ينقل الألوان للوحته، وأنا معجب، بل مندهش منذ طفولتي بالرسم، فأظل أقفز هنا وهناك، وأتسحب متلصصاً خلف الرسامين، ومعجباً وناقداً لما ينقلونه من عظمة نقوش هندسة القصر المتلألئة، ومن حمرة ألوان ملابس الجنود ذوو قبعات الفرو السوداء.
كنت في الثامنة من عمري، أرافق أسرتي في زيارة لأخي الأكبر، الذي يدرس في عاصمة الضباب، وقد ارتديت يومها حذائي الأسود الطويل، وبذلة بثلاث قطع، غير مصدق بزيارة القصر الأشهر عالمياً.
فوقيني يا ملكة النحل بقطرة رحيق، فهل حقيقة ما أشاهد حولي، أم أني أغط بين سداسيات قرص نوم عميق عسلي، وسط برودة منعشة، وأنا أعانق وسادتي بحلم طالما راود طموحاتي؟
نزوات شقاوة طفولتي سمحت لي بالتمرد على خطوط أنظمة عديدة في قصر البروتوكولات، حيث اللمس ممنوع مهما كانت التحف ذهبية مغرية، واللوحات وجوه تنظر من كل الزوايا، والصعود على أرائك الأثاث الطرية ممنوع، وحتى مغافلة الحرس، والدوران حول وقفاتهم المتصلبة صعوبات حرج مرصودة.
لم أستطع التحكم بخطوات طفولة تتمسح بالرزانة وتعاند الحدود، حتى لمعت كريستالات نجفة ضخمة، ساعدتني لأشعر أني خلال ثوان تحررت من قيود أيادي أهلي، وأن جنون أحلام المغامرة تدفعني خارج الصندوق السحري المذهبة أقفاله، فهذه زيارة فريدة نادرة قد لا تتكرر قريبا لمن هو مثلي، وربما آتي إلى هنا يوما وأنا أزرع المكان بالشيب والصلع.
يا الله، ما أبعد السقوف عن أصابعي، وما أضخم الأبواب البديعة ومسكاتها المعدنية المتقنة، المنقوشة بحرص براق.
وكيف يا ترى هي غرف النوم، وهل يقفزون غبطة وخفة على وسائد الريش الملكية؟
أستنشق ملء أضلعي حرية، وأدور خيرة على عقبي الأيسر، وأغمض عيناي، وأختار مساري مغامرتي القادم، وأنا أنظر لتلك الطاولة العجيبة، بزرابيها ومناديلها وكاساتها الصقيلة، وصحونها البلورية، وملاعقها وشوكاتها وسكاكينها المذهبة، وأرسم حلما يكاد يتحقق بالتمتع بوجبة ملكية، تحتوي من الحلويات والشكولاتة أكثر مما بها من الطبيخ.
هُنَيْهَة تحتاج لجسارة أكبر، فأجدني أبتعد عن صفوف السياح، ولا أعود أرى أو أسمع كلمات وملاحظات أهلي الناطقة بالعربية، فأنا مغامر جريء أتمنى حوز سبق المعرفة، وتجربة أي مفردة أجنبية مما حفظته في أيام زيارتي مع من يقابلني، إن لم يطلب مغادرتي.
لم أكن أخشى الضياع، فأنا في قصر ملكي مرصود، ولا يمكن أن أختطف هنا، ومهما تاهت تطلعاتي، سيتحقق النصر في نهاية محطات مغامرتي، ولا بد أن تنقذني إحدى الأسرتين المتنازعتين!
دفعت الأبواب أمامي خلسة وخفة، وصعدت سلالم الرخام الطويلة غير مصدق بروعة لحظتي، فدقة النقوش تدهشني، ونقاء اللمعة يسرقني، واللوحات ترسمني، وتلاحقني، وتعود معي منزلقة بين الأدوار.
لا بد من تخليد تلك الساعة بذاكرة ذهب، لدهشة تستحقها، وتطويع تلك القفزات وهي تحمل قدماي كبساط السحر، وكم يغريني التزحلق على دربزين السلالم، لولا اعتراض تلك التحف والتماثيل والنتوءات، التي ستكون مؤلمة مدمرة!
ربما أكون أحلم، فكيف تفتحت أمامي الأبواب، وغاب عن دربي الحرس، وكيف في دقائق ولجت خطواتي لعدة صالات، وممرات، ودورات مياه، وكم سعدت بمعانقة روعة وحسن التطاول في البنيان، وكدت أن أراقص زخرفة حبال الستائر.
ولتكامل الدهشة، لمحت أحد الأبواب يُفتح خلسة، ومن خلفه يبرز جزءا من وجهها الأبيض المحمر، وعيناها الزرقاوان المندهشتان.
يا الله، لقد كانت ذات الملامح، الموجودة في الصور، ولكن ترتيب شعرها يختلف، ولم يكن على رأسها التاج الملكي، كما على سمو لمعة العملات!
بش وجهها، وابتسمت، وحركت سبابتها بصمت، تدعوني للدخول معها لما يقبع خلف الباب من دهشة.
جرأة عظيمة امتلكتها، فلم تهتز خطواتي، ولم أتراجع، ودخلت متبسما، وأنا أمد لها كفي، فتبتسم مصافحة مرحبة، وتنزاح عن طريقي، لأدرك أني في أعجب غرفة منام مكدسة بأروع التحف والأثاث والستائر والوسائد، والطنافس والأيقونات، ومما لم يخطر على بالي رؤيته وعيشه.
سألتني عن اسمي بلغة أقرب للكمال، وجاوبتها بكلمات نصفها إشارات، ليتفرع سؤالها أغصان مكسرة عن أسرتي، وبلدي، بعد أن طلبت جلوسي على كرسي مقابل لكرسيها.
اشتعل فضولها بهدوء عجيب، وعرجت على دراستي، وأحلامي، وهي تكتشف من لغة جسدي أكثر مما تحاول مفرداتي شرحه لها، بضيق حروف وتلاقح مفردات هجينة.
دقائق، ثم هزت ناقوسا زجاجيا بيدها، لتمتلئ الغرفة بالحرس، والموظفين، ويدور بينهم حوارا ساخنا وهم يمطرون النظرات من فوقي، وقد لاحت على وجهي بسمة خبيثة، لما بدا لي من إشارات تهربهم من مسؤولية اختراقي لصفوفهم.
ولا يطول دور فرحتي فوق مسرح من بطولتي، فأجد أفراد أسرتي أمامي ، والخوف يرتسم على ملامحهم، فهل تراني أسأت إلى خلوة جلالتها؟
ويدور حديثا أكثر تماسكا وتواصلا بين صديقتي الملكة، وبين أخي المفزوع، والذي تأسف كثيرا، ثم لبى طلبها بالتعريف عن بقية الأسرة، مختلطي المشاعر بين دهشة وغضب وفرحة لا حدود لها، فشقاوتي فتحت لهم فرص لا يمكن أن تشملها تذاكر زيارة القصر الملكي.
خيال في خيال حملني فوق السحاب، وأعادني لموطني، وكل الهدايا التي اشتريتها لم تهبني قطرة من سعادة الهدية العظمى، التي تركتها هناك.
عمر يمر، وكلما سافرت لذلك البلد، أظل أستعيد الذكرى، وأرسم الخطط، وأعيد ترتيب محطات زيارتي، فلعلي أتمكن من مقابلة ملكة القصر مرة أخرى، ولكني أجدني محصورا بعذرية التجربة، فأنا أتغير في كل تفاصيل كينونتي، وحتى لو حانت لي فرصة للخروج من الطابور، ومحاولة التحدث مع المسؤولين، ومهما شرحت لهم، يظلون يبتسمون، بأعين تشوبها الريبة والإنكار وفرط الصبر، فلا ييسرون لي مقابلة صديقتي، التي قالت لي يومها: لا تغب عنا!
نصف قرن مر، وأنا أحكي حكايتي، وقليل من يصدقها، وملكة النحل عسلها لا يتغير كثيرا، فأنا أتابع حكاياتها بنهم، وأضع نفسي في كرسي المستشار لمن يريدون معرفة أي من أحوالها، وشؤونها الخاصة، وعلاقاتها بأفراد أسرتها، ومواقفها السياسية، وزياراتها لخلايا عسل العالم.
وكارثة عشتها حين سمعت خبر رحيلها مؤخرا، وأنا بعيد عنها، فحزنت كثيراً، لحلم كبير لم يكتب له أن يتكرر!
أصدقوني، ألا تبدو لكم القصة بلورة مضيئة من جانب واحد، بينما يسكن في جانبها الآخر تكتل غيوم وضباب النسيان ومرارة الرحيل دون وداع؟