الثقافية - حاوره - علي القحطاني:
بينه وبين عدسات التصوير قطيعة، فلا يسعى إليها ولا يبحث عنها، ليظل الرقم الصعب في أي معادلة إعلامية فهو ليس بعازف عن الإعلام ولكنه يزهد في الأضواء ويتركها للاهثين خلفها.. مرزوق بن تنباك دون ألقاب تسبق اسمه، أودرجات تصف مستواه العلمي والثقافي، بعد محاولات حثيثة استطاعت «الجزيرة الثقافية» كما هي عادتها في تقديم الجديد إليكم أيها القراء الكرام، أن تقنع د.مرزوق بهذا الحوار الذي أداره بكل اقتدار الزميل المبدع علي بن سعد القحطاني، الذي استطاع أن يتحدث مع الضيف حيال القضايا المسكوت عنها في سماء الثقافة والأدب، فإلى نص الحوار..
* دراستك التي جاءت في كتاب تستقصي حقيقة «الوأد عند العرب»، وتخرُج بنتيجة مفادها نفي هذه الجريمة عن المجتمعات العربية قبل الإسلام.. هل من جديد حول هذه المسألة والتراث مليء بالمسلمات والتصديق حول مسائل أخرى، وبرأيك لماذا لا تُبحث هذه القضايا.. وهل هو الخوف من إثارة ورد فعل المجتمع عند مناقشتها..؟
لم أستغرب الرفض الذي واجه ما جاء في الكتاب من أدلة دامغة تؤكد أن الوأد الذي تصفه الروايات الإسلامية لم يحدث قط. وسبب عدم استغرابي أننا أمة نقدس الماضي ونصدق كلما يقال فيه وعنه يكفي الزمن البعيد والحكايات المتتابعة ولاسيما إذا وشحت بغطاء ديني أن نعتبرها مسلمة ونعدها حقيقة ويرعبنا أن يأتي أحد بخلافها أو يحاول مناقشتها، وهذا ما حدث لقضية الوأد. والثقة في الماضي واعتبار كل ما جاء فيه مسلمات عندنا هو علة ما نحن فيه من تأخر ووضع لا يسر أحدًا. فمناقشة ما سطره الأولون مهما كانت صحته أصبح حرامًا لدى المتأخرين لا يريدون مناقشته ولا بيان الصحيح من الأوهام فيه. أكرر لك أن الوأد كلمة لم يعرفها العرب في الجاهلية ولم ترد في كل ما تركوه من الشعر والنثر والأمثال والأحاجي والقصص، ولم ترد كلمة الوأد مستعملة في جملة فصيحة صحيحة إلا بعد نزول القرآن الذي عنى بالوأد الذي ذكره معنى مختلفًا وليس ما فهمه الرواة المسلمون وحرفوه -عفا الله عنهم أجمعين.
* ابتليت بعض جامعاتنا بشراء التصنيفات العالمية ..فيما تزال بعض الكليات تعاني من تكلس أنظمتها الإدارية وضعف مخرجاتها، وبرأيك ما السبيل إلى كيفية تجاوز تلك التصنيفات وهل تحويل بعض الجامعات إلى الخصخصة سيسهم في تحسين وجودة أدائها العلمي؟
مكانة الجامعة وتصنيفها لا تقوم به جهات خارجية ولا هيئات تندب نفسها لتصنيف هذه الجامعة أو تلك، مكانة الجامعة ومستواها العلمي يقرره خريجوها وبحوثها وما تقدم من مستوى يعرفها الناس به وتصنف وتحتل مكانها بين الجامعات بما تتميز به كوادرها من إبداع وليس بشهادة هيئة متبرعة أو مأجورة لتدلي بشهادتها. الجامعات المشهورة في العالم لا تلتفت للتصنيفات ولا يهمها ذلك، ولم يقدم تصنيف جامعات العالم الثالث شيئًا يرفع من مستوى الجامعات التي تبحث عنه وتحتال من أجله، وقد حدث في جامعاتنا في السنوات الماضية شيء من ذلك الركض وراء التصنيف وزعمت أكثر من جامعة أنها وضعت في تصنيف متقدم، فهل غيَّر التصنيف شيئًا من مكانتها ومستواها العلمي وميز خريجيها ودائرة البحوث فيها أم أن الأمر كما كان وأسوأ مما كان.
* يبذل د. موافق الرويلي عبر حسابه في تويتر في الكشف عن الشهادات المزوّرة والمقالات العلمية المسروقة ..كيف السبيل لمواجهة هذا التزييف لا سيما في هذا العصر الرقمي والشبكات الهائلة من المعلومات..؟
ما قام به الدكتور موافق الرويلي وهو فرد متطوع لوجه التعليم وأمانته وغيور على مهنته التي كان فيها لا تكاد تقوم به مؤسسات بجيش من المتخصصين، وقد أصبح المصطلح الذي وضعه (هلكوني) مرعبًا ومخيفًا لأصحاب حملة الشهادات الوهمية والألقاب الكرتونية الذين يملكون المال وينفقونه من أجل أن يضعوا حرف الدال أمام أسمائهم، وليس ذلك بغريب على الناس أن يبحثوا عن الأسهل ولو بالكذب والتزييف، الغريب أن تسكت الجهات المسؤولة عن جريمة مكتملة الأركان تعاقب عليها وعلى من يرتكبها كل قوانين الأرض وهي (الكذب والتزوير والغش والتدليس)، ولم تقم هذه المؤسسات المسؤولة بواجبها وحماية الناس من الكذابين والغشاشين والمزورين والمدلسين، والأنظمة تخولها القيام بمنع كل هذه المخالفات وتجرمها وتعاقب عليها. سؤال محير يجب أن يوجه للمسؤولين عن التعليم وحماية قيمه العلمية من طالبي الألقاب وحاملي الأوهام من بعض المثقفين والعوام، وأضعف الإيمان أن توجه النيابة العامة لهؤلاء تهمة التزوير في المحررات الرسمية والغش والتدليس على الناس.
* هل الأكاديمي مطالب أن يبقى حبيس تخصصه في البحث والرأي والدراسة أم ينطلق في إبداء آرائه في القضايا الاجتماعية والشأن العام ..وكيف تقيّمون هذه التجربة على ضوء مشاركتك في كتابة مقال اجتماعي بشكل دائم في صحيفة مكة؟
الأستاذ الأكاديمي عليه واجبات أولها القيام بمهمة التعليم في صالات الجامعة وتطوير المعارف التي تخصص بها والبحث فيها وإضافة الجديد لما تخصص به وتشجيع الطلاب على حب البحث عن المعرفة والتعمق فيها وتنشيط حب الاكتشاف والاستشكال وفحص المسلمات بالممارسة وتعويدهم على أن يفحصوا ما يتلقون من معارف بالتجربة حتى ينمو في مداركهم رغبة البحث عن الجديد، والإضافة للمعرفة هذه مهمته الأولى، الثانية دوره الاجتماعي في الوسط الذي يعيش فيه وما تسمح به ظروفه وتخصصه ليشارك المجتمع قضاياه وشؤونه ويتفاعل مع واقعه كما يجب، فالكاتب والطبيب والمهندس وعالم الاجتماع وغيرهم من أهل النشاط العام لهم مجال واسع خارج أسوار الجامعة ويجب عليهم ممارسة مجالهم بصفتهم أفرادًا في مجتمعهم فاعلين ومساهمين في القضايا العامة التي تهم الناس، ولا شك أن الأستاذ الأكاديمي لا يجب عليه التقوقع في تخصصه والتخلي عن دوره التثقيفي مهما كان ذلك الدور ومهما كانت مشاغله والتزاماته ومطلوب منه المشاركة الفاعلة والنافعة فيما يستطيع تقديمه خارج أسوار الجامعة.
* كانت بدعة الأدب الإسلامي هي الوصف الذي بدأت به موقفك من مشروع الأدب الإسلامي في حوار أجرته معك مجلة الدعوة السعودية الصادرة في يوم الخميس 16/ 1/ 1410هـ، لماذا اتخذت موقفًا مضادًا من ذلك التاريخ تجاه هذا الأدب المستحدث؟
ليس الموقف من الأدب ونوعه وما ينتمي إليه النص الأدبي، الموقف كان اعتراضًا على مبدأ التصنيف واختيار صنف واحد وتجريم غيره من المضامين والموضوعات، وأنت تعرف أن فنون الأدب موضوعاته كثيرة متنوعة منذ عرف الأدب ولم يعترض أحد على ممارسة المضامين المعروفة، فمنذ صدر الإسلام عرف الشعر العذري وشعر الغزل الكشوف والهجاء وغيره من أنواع الشعر المرغوب والمرفوض ولم ينكر أحد ممارسة هذه الفنون أو يجرمها أو يدعو لإلغائها والتحذير منها.
* أشرت إلى أن نشأة رابطة الأدب الإسلامي كانت في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1984م، ألا ترى أن جذور هذا الأدب يعود إلى أبي الأعلى المودوي وأبي الحسن الندوي قبل ذلك التاريخ في القارة الهندية؟
ذكرت في كتاب بدعة الأدب الإسلامي أنني حضرت محاضرة لأبي الحسن الندوي في مدرسة طيبة الثانوية في المدينة المنورة، وأنني أول مرة أسمع كلمة أدب إسلامي منه في ذلك الوقت، أي 1385هـ قبل دعوة رابطة الأدب الإسلامي بعشرين سنة، لكن دعوة أبي الحسن الندوي وغيره كانت رأي وحديث عارض وقد يعني مضمون الأدب ولا يعني تصنيفه ولم يؤسس له ولم يدعو ليكون تنظيمًا وتقنينًا للأدب الإسلامي، أما رابطة الأدب الإسلامي فهي منظمة لها برنامجها ورجالها، وعلماء ينظرون لمشروع وبرنامج هو تجريم كل أدب لا يكون إسلاميًا وتجريم قائله والتحذير منه وحشد الأدلة الشرعية ضده، فالأمر لم يعد خيارات أو إبداعًا في فن من فنون الأدب إنما كان إعراضًا وتنكرًا لما ليس في مشروعهم وما لا يوافق برنامجهم، وهذا هو سبب اعتراضي- منذ 34 عامًا مضت وليس اليوم - على مشروعهم، أما بداية إعلان المنظمة فقد كان كما ذكرت في جامعة الإمام لكن سبق هذا التاريخ إرهاصات كبيرة وأدبيات كثيرة كان الشيخ رأفت الباشا -رحمه الله- هو عرابها، وقد سخر طلابه للبحث فيما سماه الأدب الإسلامي وكلف الطلاب قبل التخرج بإعداد بحوث التخرج عن الأدب الإسلامي خاصة، وستجد تفصيل ذلك في الكتاب.
* هل نحن أمام مرحلة جديدة لم يعرفها الأدب العربي في تاريخه كله ولم تعرفها الآداب الأخرى، وتعرض التراث إلى أحكام قسرية وتصنيفات جائرة والحكم عليها طبقًا لقراءة هذا الأثور بالكفر أو الإسلام، بالفسق أو الصلاح؟
نحن اليوم نتحدث عن مرحلة ودعوة مضت وانتهت وليست جديدة وننظر فيما آلت إليه من فشل ولسنا أمام مشروع أدبي قائم كما كان في أول أمره قبل أربعين عامًا، نحن نقرأ النتائج التي آل إليها مشروع تصنيف الأدب العربي إلى إسلامي وغير إسلامي، وقد انتهى الأمر إلى فشل التجربة فنيًا قبل أن تفشل تنظيميًا، وفي كتاب بدعة الأدب الإسلامي ستجد فصلاً كاملاً كتب قبل عشرين عامًا تناول الجانب الفني الذي أبدعه رواد الأدب الإسلامي وبين فيه عجزهم من الناحية الفنية فقط وبعد نصوصهم عن روح الأدب ومقوماته الفنية واستنتج نهاية تجربة الأدب الإسلامي وتصنيفه إلى إسلامي وغير إسلامي.
* هل أسلمة العلوم الإنسانية ومنها الأدب تؤدي إلى أقصاء المنهج العلمي عن مشاريعها البحثية وتتعامل بعواطفها في تزكية النفس ورمي الآخرين بالأخطاء والتصنيفات؟
أسلمة العلوم كانت جزءًا من المشروع الثقافي العربي الكبير الذي ساد في الساحة الثقافية العربية منذ خمسين عامًا مضت، ولو رجعت إلى ما كان يكتب من مناقشات لأسلمة العلوم الطبيعية خاصة والعلوم عامة لوجدت أن هناك كتابًا ومفكرين أعلنوا أن أسلمة العلوم كانت تكلفًا لن يأتي بنفع ولا فائدة منه، وقد شاركتُ في ذلك الوقت بكتابات ومحاضرات تظهر وجهة نظري في المشروع ووجه الخطأ فيه وأن الضرر من أسلمة العلوم أكثر من النفع بل هو ضرر متحقق للثقافة العربية وللعلوم الطبيعية كليهما.
* لماذا الاعتراض على مصطلح الأدب الإسلامي؟ ولماذا يُرفض مصطلح الأدب الإسلامي؟
للاعتراض سببان: الأول أن الأدب مجال واسع وحياة وثقافة متجددة وأنه لا يمكن وضع الأدب في صنف واحد وترك ما سواه وإلغاؤه كما يريد دعاة الأدب الإسلامي، السبب الثاني أن الأدب العربي في تاريخه الطويل لم يعرف التصنيف الحاد الذي لا يقر إلا نوعًا واحدًا منه، ويكفي أن تعرف أن عمدة اللغويين والأدباء والنقاد وحتى تفسير العربية ونصوص القرآن كانت تعتمد على الشعر الجاهلي، أي ما قبل الإسلام، فماذا يصنع دعاة الأدب الإسلامي بالشعر الجاهلي وماذا يصنعون بالشعر العربي الذي لا يتسق مع رؤيتهم التي يريدونها إسلامية بمعايير خالصة وابتهالات وتراتيل دينية.
* ما تعليقك على قولك في مناداة أصحاب هذا المصطلح المستحدث بـ «البدعة» وتقول «أفلا وسع أصحابَ هذه البدعة ما وسع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على مدى أربعة عشر قرناً، فسكتوا عما سكتت عنه الأجيالُ المتعاقبة والحقب المتتابعة، ولم يحدثوا ما يفرق جماعة المسلمين، ويشتت شملهم، ويجعلهم في الأدب أحزاباً وشيعاً؟»
استعملتُ أثرًا مشهورًا يعرفه جيدًا الإخوان في رابطة الأدب الإسلامي والأثر الآخر يقول: حدثوا الناس بما يعرفون، وقد حدثتهم بما يعرفون وهو أنه لم يسبقهم أحد من المسلمين في كل التاريخ على دعوة مثل دعوتهم، وهذا ما جعلني أسميه بدعة استعمالاً للمصطلح الذي يعرفون دلالته الشرعية، فهذه المفردات تأتي في سياق الجدل لمن يعرف معناها ويقر بما تشير إليه وليست تكلفًا لمصطلح جامد كما زعم بعض النقاد الذين اعترضوا على التسمية بعد صدور الكتاب بهذا العنوان.
* هل انتهت رابطة الأدب الإسلامي بوفاة الشيخ عبد القدوس أبو صالح؟
رحم الله الشيخ عبد القدوس ورحمنا جميعاً، لنهاية رابطة الأدب الإسلامي أسباب كثيرة أهمها عجز أعضائها عن الإبداع الفني الذي يغري القارئ بمتابعة إنتاجهم الأدبي والشعري منه خاصة، الثاني الالتزام ولا يكون الالتزام في الأدب أو في أي منهج إلا أضعفه وأفسده وحال دون نجاحه، فليس فيما نشروا من الشعر والنثر روح الحياة ولا مقوماتها الفنية ولهذا كان محكومًا عليه بالنهاية فنياً، أما ثالث الأسباب فهو التحول الثقافي الذي حدث في العالم العربي وهو تحول كبير لا شك أنه عجل بالقضاء على هيكل الرابطة وأوقف نشاطها المنبري.