د.محمد بن عبد العزيز الفيصل
عند الحديث عن سيرة الشيخ محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل، فلابد من الوقوف على بداياته الأولى، وذلك من أجل إلقاء الضوء على الدوافع التي كانت سببًا في نبوغه، وبروزه في ميدان العلم والمعرفة.
ولد شيخنا محمد بن عمر، في محافظة شقراء عام سبع وخمسين وثلاث مئة وألف من الهجرة النبوية الشريفة -، وشقراء ضمن إقليم الوشم، وهي إحدى محافظات منطقة الرياض.
تلقى ابن عقيل تعليمه الأولي بالكتاتيب، ثم الابتدائي، ليلتحق بعد ذلك بالمعهد العلمي ثم بكلية الشريعة بالرياض التي تنتمي الآن لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ليحصل على درجة البكالوريوس في الشريعة فيختم مسيرته في التعليم النظامي بشهادة الماجستير من المعهد العالي للقضاء بالجامعة نفسها، إلا أنه لم يتسلم وثيقة حصوله على الدرجة حتى الآن وفق ما ذكره لي في أكثر من مناسبة.
لم يكن التعليم النظامي هو سبب نبوغ شيخنا أبي عبدالرحمن، بل كان شغفه بالعلم وحبه له هو السبب الرئيس الذي يقف خلف ذلك، إلى جانب تأثره بعدد من الشخصيات التي أثّرت في مسار حياته، وعلى رأسهم: الشيخ: صادق صديق أزهري وهو من أبرز علماء الشريعة في مصر، وهو الذي وصفه أبوعبدالرحمن بأنه: «باقعة في علمه»، إلى جانب الشيخ: صالح بن غصون، وكذلك الشيخ: محمد بن عبدالرحمن بن داوود، رحمهم الله جميعًا، والأخير من أكثر المشايخ الذين لزمهم أبو عبدالرحمن، ومن شدة تأثره بالشيخ ابن داوود، أنه سمى ابنه داوود تيمنًا به، وقد انتقل داوود إلى رحمة الله تعالى، يقول أبوعبدالرحمن في هذا الشأن: «وقد سميت ابني داوود لباعثين هما: داوود الظاهري، واللقب العائلي لشيخي محمد رحمهم الله».
ومن المشايخ الذين تأثر بهم: عبدالرزاق عفيفي، وعمر المترك، وعبدالفتاح أبوغدة، رحمهم الله، وهؤلاء كان لهم الفضل في نبوغه العلمي والثقافي، وقد أدركهم الشيخ أمد الله في عمره.
أما الذين لم يدركهم الشيخ أبوعبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وتأثر بهم تأثرًا كبيرًا هو إمامه: علي بن أحمد بن حزم الظاهري الأندلسي، ومع ارتباطه الوثيق بأبي محمد، إلا أنه قد اختلف معه في كثير من المسائل، ويعلل أبوعبدالرحمن اختلافه مع إمامه ابن حزم بقوله: «لأنه علمني حرية الفكر»، والتطلع إلى تنوع المعرفة وأن أكون على سجيتي لا أبالي بنقد ناقد، وإن كنت أسرفت في ذلك؛ فأضر بي ذلك أي إضرار، وتعلمت منه التبويب المنهجي، وألا أكون في أحضان شويخ أقلده، وكما حلّق بي في معارفٍ معيارها الجمال حتى اخترت ذلك في الزي الذي ألبسه؛ فَفُطرت على حب الجمال والشوق إليه سماعًا ورؤية مع رياضة شرسة نكدة لا أزال أعانيها لتستقيم حقائي وديني وأخلاقي، وآليت على نفسي ألا أتمظهر للناس بما يعلم ربي مني خلافه إلا ما يجب فيه الستر»، ويتجلى من كلام أبي عبدالرحمن، أن تأثره الشديد بشيوخه وعلى رأسهم الإمام ابن حزم، وهو سببٌ وجيه في فيما اتجه إليه من العلم، وفيما سطرته اتجاهاته الفكرية والثقافية، وهي خليقة بالبحث والدراسة.
سلك أبوعبدالرحمن طريق الوظيفة فالتحق بإمارة المنطقة الشرقية عام واحد وثمانين وثلاث مئة وألف للهجرة النبوية، لينتقل إلى ديوان الموظفين العام ثم إلى رئاسة تعليم البنات ليستقر أخيرًا بوزارة الشؤون البلدية والقروية، إلا أن هذه المحطات لم تلهه عن العلم وطلبه، فالكتاب رفيقه في كل هذه المحطات، فكان يأنس به حتى عودته إلى المنزل، إلا أنه آثر الانكباب على العلم فأقدم على التقاعد المبكر عام أربعة عشر وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية الشريفة، وهذا ما ذكره لي أبوعبدالرحمن بأن سبب التحاقه بركب المتقاعدين هو تفرغه للعلم وانصرافه له.
ولم يطل انفكاكُ أبي عبدالرحمن عن الوظيفة فعاد إليها عام ستة عشر وأربعة مئة وألف للهجرة، متعاقدًا ليكون مستشارًا بمكتب سمو الأمير نايف بن عبدالعزيز طيب الله ثراه، وكان عمله في هذا الميدان ثقافيًّا أكثر من كونه إداريًّا فقد كُلف من سمو الأمير نايف بزيارات لإسبانيا من أجل إعداد بحوث علمية عن تاريخ الأندلس، لما رأى سموه من ابن عقيل شدة اهتمامه بتاريخ الأندلس، وولعه الشديد بالإمام ابن حزم، وقد كان سموه محبًّا للتاريخ وحريصًا على تتبع أخبار الأمم السابقة.
وكان هذا الأديب الأريب رغم هذه الأعمال والأعباء على اتصالٍ وثيق بالثقافة والفكر، وذلك عبر ممارسة الكتابة الصحفية التي لم ينقطع عنها حتى الآن أي ما يقارب منذ أكثر من ستين عامًا، وكانت وما زالت مقالاته معينًا صافيًا ينهل منه كل من أراد أن يستمتع بالتجارب الأدبية الأصيلة، وقد سُجلت عن نتاجه الأدبي عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات المحلية والعربية.
وقد تطور اتصاله بالصحافة ليؤسس مجلة الدرعية التي تعنى بخدمة التاريخ السعودي وإثرائه، إلى جانب خدمة تاريخ الجزيرة العربية على مر العصور، والتراث العربي والإسلامي، والدرعية مجلة علمية فصلية محكمة، وقد أثرت هذه المجلة المكتبتين السعودية والعربية ببحوث قيمة ومتنوعة، إلا أنها قد توارت عن الصدور الآن لأسباب مادية وفق ما ذكره لي شيخنا أبو عبدالرحمن.
ولقد توثقت صلته أيضًا بالمجتمع الثقافي عبر صالونه الأدبي بحي السويدي بالرياض الذي كان يلتقي فيه الأدباء كل يوم أحد، ومازال هذا الصالون مستمرًّا منذ تأسيسه نهاية القرن الرابع عشر الهجري وحتى هذه اللحظة، وقد استضافت هذه الأحدية خلال هذه العقود الطويلة جمعًا من الأدباء والمثقفين والمفكرين وكرمتهم، خلال هذه المسيرة الحافلة بالعطاء.
وقد أصدر الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل خلال هذه المسيرة الحافلة مجموعة من الإصدارات تجاوزت مئتي مؤلف، في اللغة والأدب والفلسفة والفن وعلوم الشريعة والتاريخ إلى جانب التحقيق، وهناك الكثير من نتاجه لم يطبع حتى الآن، ومن أشهر كتبه: تخريج بعض المسائل على مذهب الأصحاب، شيء من التباريح، نظرية المعرفة، عبقرية ابن حزم، لن تلحد، ليلة في جاردن سيتي وسويعات بعدها أو قبلها، بنو هلال أصحاب الغريبة في التاريخ والأنساب، معركة العامية، تحقيق كتاب: الذهب المسبوك في وعظ الملوك تأليف أبي عبدالله محمد بن أبي نصر الحميدي، تاريخ نجد في عصور العامية: ديوان الشعر العامي بلهجة أهل نجد.
ولعلي قبل أن أختم حديثي ألقي الضوء على جانب مهم من شخصيته، وهو زهده وورعه في الدنيا، فمن يعرف شيخنا أبا عبدالرحمن فسيدرك هذه الصفة فيه، فهو متجه للعلم ومنكب عليه، باذلٌ فيه كل ما يملك ولا يسعى من ذلك إلى غرض دنيوي وإنما يرجي رضا الله عز وجل، لهذا فهو لا يحمل غلًّا على أحد، ويتجلى ذلك من قوله: «فإذا خلوت بنفسي تفاءلت برحب المنقلب عند الله سبحانه وتعالى؛ للحديث المسلسل عند ذوي الفهارس والأثبات: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وجبلت طبعًا لا تصنعًا -حتى عد ذلك بعض الناس من السفه- على السماح بالمال والجاه، وأنني لا أَبِيتُ حاقدًا على أحد وإذا غضبت جئت بآخر ما عندي حتى رُضت ذلك بالتجلد والصبر.. وقد ظلمني أناس من ذوي الخير والصلاح فأبحتهم في حياتهم وبعد مماتهم».
وهذه هي أخلاق العلماء، ولا يسعني في نهاية هذه الورقة إلا الدعاءَ لشيخي أبي عبدالرحمن بطول العمر على طاعة الله عز وجل.