حمّاد بن حامد السالمي
* اللهم لا راد لقضائك. من جديد؛ نُفجع في أخ وصديق كان ملء العين والبصر. إنه الأديب والكاتب التونسي الأستاذ: (البشير السالمي)، الذي وافاه أجله المحتوم قبل عدة أيام فارطة في داره بالمنزه التاسع في تونس العاصمة. اللهم ارحمه واعف عنه، وارزق زوجته المصونة: (حبيبة) وبناته: (مريم وليلى وهند)، وأسرته في تونس العاصمة والقيروان؛ وفي المهاجر؛ صبرك وسلوانك.
* يعود الفضل في معرفتي بهذه الشخصية العربية الفذة؛ إلى مجلة: (المجمع العلمي العراقي) - التي كانت تصلني تباعًا طيلة عشرة أعوام، إلى أن حلت سنة الغزو الصدامي للكويت 1990م؛ فتوقفت. كنت أتابع ما تنشره من بحوث ودراسات علمية رصينة، وصدفت أستاذًا وباحثًا تونسيًّا ينشر فيها هو: (البشير السالمي)، فشدني الاسم، فراسلته وتواصلت معه، حتى أصبحت مشدودًا لزيارة بلد فيه البشير السالمي، الذي أصبح صديقي لأكثر من أربعين عامًا حتى يوم وفاته، وتمّ لي ذلك في رحلة أسرية أولى عام 1982م، فأصبحت تونس وجهتي السياحية طيلة ثمانية أعوام، حتى عرفت الكثير من مدنها ومنتجعاتها انطلاقًا من تونس العاصمة، فكانت بغداد ومجلتها العلمية؛ البوابة التي دخلت منها إلى تونس. وفي العام 1986م؛ تفضّل عليّ نادي الوحدة السعودي بدعوة لمرافقة فريقه الكروي المعسكر في سوسة، ومنها كانت هناك مباراة ودية مع فريق تونسي في القيروان، فتحقق حلمي برؤية عاصمة الفتح، التي جعلها عقبة بن نافع منطلقه لفتح شمالي إفريقية، ودخلت مسجده التاريخي، وتعرفت على أصدقاء من السوالم في قبيلة (البشير السالمي) من ساكنة القيروان.
* في صائفة ذلك العام؛ كان المدرب الكروي الشهير: (عبدالمجيد الشتالي)؛ هو مدرب الوحدة، لهذا جاء الفريق إلى هنا. واستضافنا الشتالي في داره بطرف سوسة التي كانت تسمى (حضرموت) زمن الفتح الإسلامي، ورأيت وشاهدت (استديوهات) الإنتاج الفني للفنان السعودي (لطفي زيني)، الذي جعل من سوسة متديرًا له عدة أعوام، وكنا نتابع وقتها في تونس نشاط الشاعر السعودي الكبير (طاهر زمخشري) رحمه الله؛ الذي تدير هو الآخر تونس حتى وفاته، وكنا كلما هبطنا مطار قرطاج؛ وأخذنا طريقنا من المرسى نحو قلب تونس العاصمة؛ نمر بـ (حلق الواد)، فنتذكر بساط الريح الذي طار محلقًا؛ فطاف به وبمحبيه من كافة البلدان العربية الفنان الكبير (فريد الأطرش)، من كلمات الشاعر الكبير: (بيرم التونسي) فنردد معه:
تونس أيا خضرة..
يا حارقة الأكباد
غزلانك البيضة..
تصعب على الصياد
غزلان في المرسى..
ولّا في حلق الواد..
على الشطوط تعوم
* كما كنا نشنف آذاننا بين وقت وآخر؛ بأغنية الفنان السعودي الكبير (طلال مداح) رحمه الله: (العيون التونسية)، من كلمات الفنان: (لطفي زيني)، ومنها:
يا قمر تونس حنانك
في القلوب العاطفية
كمّلك ربي وزانك
بالعيون التونسية
* وفي أنحاء أخَرَ من تونس؛ كنا نقف بإعجاب على استثمارات سياحية لسعوديين في تونس، منها ما كان للشيخ صالح كامل - رحمه الله - بطرف تونس العاصمة، وغيره. وكنا نشهد في المدن التونسية؛ آلاف السعوديين الذين جعلوا من هذا البلد الشقيق وجهة سياحية لهم، وكان لصحيفتنا هذه: (الجزيرة)؛ مكتب فخم في عمارة كبيرة مطلة على نهج بورقيبة، الذي هو أكبر وأجمل (النُّهُج) في تونس العاصمة، يديره زميلنا (الطيب فراد). ومما لا ينسى في تونس العاصمة وضواحيها وشواطئها؛ زياراتي المتكررة للناشر التونسي الكبير: (علي بوسلامة)، في مكتبه بزنقة متفرعة من نهج بورقيبة، ولقاءات أدبية رائقة رائعة كانت تتم في كنف المرحوم (البشير السالمي) أحيانًا، سواء في داره بالمنزه السادس؛ الذي تحول منه بعد ذلك إلى التاسع؛ أو في قرطاج، وسيدي بوسعيد، وقمرتا، ومكتب الجزيرة، من ضمنها ما تم لي وصديقي وزميلي الدكتور عدنان المهنا، وكنا في رحلة سياحية أسرية إلى تونس. كان مما يزين لقاءاتنا في (تونس بورقيبة الخضرا)؛ نجوم لوامع منهم: مديرنا العام في الجزيرة أوانذك الشيخ (صالح العجروش) رحمه الله، وأستاذنا الكبير الأديب الناشر (عبد الرحمن المعمر) في حلق الواد، حيث سكنه مدة عامين في هجرته الثانية بعد لندن، والأديب الشاعر الدكتور (حمد الزيد)، وجمع من المثقفين والكتاب التوانسة؛ الذين عرفتهم عن طريق الجميل المرحوم البشير السالمي في تونس العاصمة، وفي مدن مثل: (القيروان وسليمان والحمامات وسوسة والمهدية والمنستير وقربص)، وغيرها من البقاع الجميلة.
* كنت أتردد على تونس حتى بعد عهد بورقيبة، وصادف أن كنت في سوسة سنة التفجير الإرهابي، فخرجت منها صباحًا مع بقية الناس على وقع التفجيرات إلى قرطاج. وعلى وقع هذا التفجير والاتهام الموجه للقذافي وقتها؛ عانيت من معاملة جافة من (شيف) النزل الذي سكنته بقرطاج، فمُنع عني الأكل والشرب، فاتصلت بالبشير مستغيثًا، ليأتي ويتفاهم مع إدارة النزل؛ التي ظنت أني ليبي؛ لمجرد أن شعر رأسي كث، وشكلي يشبه الليبيين..
* ولي مع المرحوم البشير مواقف وطرائف أخَر لا تنسى، فهو الذي كان يتتبع ما أنشر من مقالات، فيأخذ منها ما يخص تونس أو عموم العرب للنشر مرة أخرى في صحيفة الصباح التونسية، ويهاتفني وأهاتفه باستمرار، ويعلق على هذا المقال أو ذاك، أو يبدي وجهة نظر في غاية الذكاء والحنكة، فهو عروبي بحت، وواحد من محبي وأنصار بورقيبة، وتربطه صداقة متينة مع المرحوم (محمد مزالي) الوزير الأول في آخر أيام بورقيبة، بل وجاره في الساكنة بحي المنزه السادس. هاتفته رحمه الله قبيل وفاته بيوم أو يومين، فما ارتحت لصوته، وكنت أتحدث معه قبلها صبيحة العيد الكبير وأنا في سفر خارج المملكة مهنئًا بعيد الأضحى، فراح يشكرني ويعتب علي أني ما عدت أزور تونس، وأنا أراها من الجو جيئة وذهابًا. قلت له ممازحًا: اعطني تونس بورقيبة آتيك في الحال.. قال مستغرقًا في الضحك: محال يا حمّاد محال..
* الوداع.. الوداع أبا مريم.. ولو كان مرًا. محال أنساك يا أخي وصديقي:
طوراً تُكاثِرُني الدُموعُ وَتارَةً
آوي إِلى أَكرومَتي وَحَيائي
كَم عَبرَةٍ مَوَّهتُها بِأَنامِلي
وَسَتَرتُها مُتَجَمِّلاً بِرِدائي
أُبدي التَجَلُّدَ لِلعَدوِّ وَلَو دَرى
بِتَمَلمُلي لَقَد اِشتَفى أَعدائي
ما كُنتُ أُذخَرُ في فِداكَ رَغيبَةً
لَو كانَ يَرجِعُ مَيِّتٌ بِفِداءِ