عبدالمحسن بن علي المطلق
لطالما أنار في دياجي ممالك "القصّة" تواجده، وانضوى من بعد (غيابٍ) عن الأضواء، أو شبه انقطاع مؤدٍّ لانصرامٍ أبديّ عن التواصل.. آن بلغ محطة الرحيل
والكلمة (الأخيرة) ليس معناها عاديًا! بل تقطّع سيطانها ظهر الصبر منّا، وتمزّق ما نتسربل به من جلد..!
تفاجأت بـ( تأبين) مَن..؟ إنه استاذ القصّة -بما تعنيه الأستاذية- (عبدالله بن عبدالرحمن الجعيثن) عن عمر يناهز الـ70 عاماً، بعد معاناة مع المرض، كذا أُلحق الخبر..، وبالتحديد -يوم الرحيل- الأربعاء الواقع في تاريخ 23 ربيع الأول.
هذا، وأوجز عنه سياق الخبر عن وفاته:
{وكان قد بدأ الجعيثن الكتابة وهو طالب في الثانوي عبر برنامج "يا أخي المسلم"، وتعاون مع الإذاعة 25 سنة قدّم خلالها برامج متنوعة يومية وأسبوعية في إذاعتي جدة والرياض، كما وكتب في العديد من الصحف والمجلات داخل المملكة وخارجها، وألَّف أكثر من خمسين كتاباً أكثرها اجتماعية، عدا (كيف تستثمر أموالك في الأسهم؟) الذي نشره عام 1992..}.
و.. مما كتبت عنه من احتضنه بل هي (داره) صحيفة "الرياض".. أن {الراحل من كُتّاب المقالة البارزين محلياً وعربياً، حيث جمع بين سلاسة الحرف وعمق المعنى والقدرة الكبيرة على الإمساك باهتمام قارئه، فقد كان له أسلوب بياني اكتست به عبارته، وبدا واضحاً فيها امتلاكه لذخيرة لغوية جزلة حازها من خلال (تخصصه) الدراسي في كلية اللغة العربية طالباً، ثم معيداً -بالكلية ذاتها-..}.
فرحم الله ذاك الذي كان ينبئ قلمه عن خُلقه، وعوّضت كلماته عن كثبٍ مؤلفاته.. لُطفًا وأطايب أنفاس لم يؤتها شطر الناس!
لكأن لندرك أنها وهائب لا نهائب يمنّ بهنّ كـ(مكرمات) على من يشاء ..الكريم المنان-..سبحانه-.
فإني وعلى مدى مطالعاتي المقتضبة، أو تترخى أحايين لم أرَ من يمدّ عنق قلمه بالتعبير ليبلغ الدقيق للمواقف والعواطف - معًا- مثل قلمه، فقد كان ذا (موهبة)عجيبة، وهنا تلفى الـ(سبعة عقود) التي عاشهنّ قد طوى جلائل مناشطه فيها، ولعل عمره كلّه بالتقريب قضاه في كنف تلكم، فلم يبرح عنه عكفا، أعني جل إربه صرفه بين ما يُحب - ويهوى- الكتابة، وهي محمدة، فمن التطابق قولهم:
"أحب ما تهوى، لتهوى ما تحبّ"، وعند الإنكليز (السعادة أن يكون عملك هوايتك، وزوجتك حبيبتك)!، عاد من يحصلّ الأخيرة؟! .. المهم أظن يقينًا أن فقيدنا -رحمه الله- قد امتطى تلكم الجملة، إذ هي بالغة في ناظريّ من وعاها فطبّقها ولم يُطبق عليها فقط(?) في مكنوز معالمه!، فمفادها: إنك إن أحببت ما تهوى، فلن تهوى في مراديه، ولا تتقوّض بين طارفيه أعوادك، أقصد منابت إبداعك..
وأذكر من كليمات "تأبين" د. محمد المشوح للأديب عبدالمقصود خوجة- رحمه الله- مما أستشف منها لصاحبنا (..أعمار الناس دوماً تُقاس بمنجزهم، وعملهم.
أي ما يقومون به، فينهضون به أُممهم، وهم -بهذا- يسطرون أمجادًا، وآثارًا لا تمحى ..) ألخ- بتصرّف-
فكفاه فقيدنا( شهيدًا) على مثل هذه أنك ..وأنت تقرأ في خبيئ مفرداته، من أنه لم يدع لتخيلاتك مساحة تملأها، بل قام بإبداع عرضه ليشبعها، ما لا حاجة أن تتخيّل المشهد فقط!
إنما وكأنك متواجد بين أروقته ترقب أحداثه.
إذ كان من دون أن تحسّ -به- ينتقل بك فيدخلك ليس بمعمعة أحداث القصّة، بل في خيالات مواضع لا يأتيها أي شائبة تبدي عن عوار.. نابها!، ففي أدق التفاصيل مدّها بتأصيل طرح.. ما لا تدرِ بعدُ (من عذوبة ما أُوتي) بأيها تعجب!
أَمن جمال الفكرة، أم جلال العرض؟، فلا تفق إلا وقد دنوت من الخواتيم، ما تكاد تردد عندئذ ليتها - القصة - لم تنتهِ، وربما حلّق العجب بأسلوبه والحياكة أن تهمس له.. لو كان منك قريبًا -المكان - ب: حبذا (يا ابن عبدالرحمن) أن تعيدها، لتعايش ما مررت عليه منها مرور الكرام ..وفي داخلك تمنّي الذات أنك ستكرّ عليها
وبالفعل أكرر بما حازه من عبير وجمال صياغة عدا الفكرة، وأعني وُجهة القصة التي فيها من رموز التقطها من تفاصيل اجتماعية تقف مدهوشًا كيف استطاعت أدواته توظيفها، كأن لتوصل لك قبل دواته أن (الموهبة) نعمة قائمة بذاتها، تحتاج إلى صقلٍ نعم، لا لكي يثبتها، ولكن لتقوم بعيدها -هي- على عودها، وهذا ما فعله فقيدنا عليه الرحمات.. تترا.
خلاف من سامحم الله عاثوا من خلال رياض الأدب، وربما شوّه بعض فرادهم ولا أقول فرائدهم بما قدّموا صورة وجه إبداعنا الأدبي، ما لا تدرِ كيف تعاتب، بخاصة من عاليه سحنة حبّ للغتنا، لكنه كـ.. مسايرة للسائد- ولا أحبذ لفظة "موضة" - خلط في عطائه طالحًا بصالح كان عُهد عنه سلفًا!
فـ(سامح) الله من لم يقصد، وحتى من قصد.. منهم!
ها قد رحل وأبقى آثارًا تُشير إليه، ومآثر فينا تحسب له.
فالرحيل -أي هذا المآل- وحده الذي يكسر غرور أمانينا بالحياة ويهدم عرش جبروتنا، ويجعل من الأقوياء بحضرته جبناء وبالذات إذا طرق أبوابهم!، وذلك أنه ليس لأحد عنه محيدًا، ولا حصنًا منيعًا، أو ملجأً لأي مغارة ينضوي فيها عنه، أو مفازة عن الانقياد له، عدا...
غرورٌ يمنّينا الحياة، ورجوها
وجنات الأماني فيها بلاقعُ
فقط ليخبر -الموت- أن الحياة محيانا (نعمة) ومن ربّنا منّة.. الذي مدنا بنعم تسندها، ذكر بسورة "الواقعة" بعضًا من تلكم:
{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ، لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.
والمقوين.. قال الضحاك- رحمه الله: أي منفعة للمسافرين، سموا بذلك لنزولهم القوى وهو القفر.
* .. أو حتى لا يكن (مساحة) خُلف بين قولنا والعمل به - كما قالها منذ قرون/ الطغرائي!-
* إن وجها من جلال لغتنا أن تجد الحرف الواحد يحمل تساؤلا، كما في قوله تعالى: {.. أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} [مريم: الآية 46]، وخذ {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: الآية 137]، فالكلمة الأولى بربك/ كم من الكلمات تلزمك لترجمتها، إلى لغة أخرى.