حسن اليمني
سألني من أين أنت؟ من المملكة العربية السعودية, هكذا أجبت مستعداً لقراءة انطباع إجابتي على ملامح وجهه والتي لم تفاجئني, برميل النفط والجمل والصحراء, بطولة كأس العالم في قطر بعد أيام ربما تكون صادمة لهذا الانطباع الزائف لدى آلاف من الناس بمختلف أممها حين يرون ما لم تتسع له خيالاتهم برؤيته في أوطانهم بما في ذلك أوروبا وأمريكا التي يعتقد كثير من شعوبها أنهم في بلدان منفردة بالتطور والتقدم المدني.
التصور النمطي عن العالم العربي متأصل بفعل الدعاية الإعلامية الصهيونية غربية وشرقية في إرث ممتد عبر قرون من العداء في صراع الحضارات, عجزت وسائل الإعلام العربية منذ نشأتها وحتى اليوم عن إثبات وجودها لتصحيح النظرة والتصور النمطي المختزن بتراكم الدعايات البغيضة والمستحقة وصف «العنصرية» عن الإنسان العربي والوطن العربي في واجهاتهم الإعلامية أو بالأصح دكاكين التزييف والتضليل الكريهة, حتى أنه يوم ظهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يصرخ أمام عدسات الإعلام قائلاً إنه يريد أن يطور مطارات بلاده أي الولايات المتحدة الأمريكية لتصبح مثل مطارات دول الخليج تنافست وسائل الإعلام تلك في النيل من هذا بالتهميش والسخرية في الظاهر ولكن وللحق فقد فعل هذا التصريح لمرشح الانتخابات الرئاسية آنذاك فعله المستحق في ارتداد عقول وفكر كثير من المثقفين والإعلاميين هناك لإعادة تصحيح النظرة إلى درجة أن تنتج هليود الأمريكية أفلاماً تصوّر بعض مشاهدها في مدن خليجية لإعطاء مشاهد الفيلم مسحات جمالية فرضت جمالها وسحرها عليهم رغم أنفهم وتعطي إقراراً واعترافاً بزيف وكذب ادعاءاتهم .
كل أمم الأرض سيتوجه بعض ناسها إلى قطر هذا الشهر مصحوبين بوسائل إعلام وإعلاميين, هذه الجماهير لن تكون نخبوية أو مقصورة على رجال أعمال يعرفون بحكم الحاسة التجارية واقع العرب ونشاطهم لكن هناك الأغلبية من هذه الجماهير من عموم الشعوب والتي لا تملك أدنى درجة من التصور غير الانطباع السائد عن العربي المرفق ببرميل نفط وجمل وصحراء, مشاهد إن لم تفاجئ وتصدم تلك العيون والعقول فإنها على الأقل لن تشعرها برهبة الصحراء ورائحة النفط وخفة الإنسان العربي الذي تصوره له تلك الدعايات الكريهة والإعلام الأعمى, حضورهم وإعادة تصحيح انطباعاتهم عملية غاية في الأهمية كونها تحقق ولو القليل من العدل والإنصاف للإنسان العربي وبذات الوقت تكشف وتفضح زيف الصناعة الزائفة في بلدان كثير منهم ومدى بعدها عن الحقيقة, ثم إن الوعي واليقظة في العقل تلك التي تصحح وتعيد تركيب الفهم للآخر في عقول هؤلاء الجماهير ستمتد إلى أبعاد أوسع من الرياضة أو التقدم والتطور المدني بل تصل إلى تاريخ وإرث هذه الأمة العربية الإسلامية وتسهل فهم كثير من قضاياها التاريخية والسياسية والاقتصادية, مسألة الدخول إلى وعي وعقل الآخر بالطريقة الصحيحة عن طريق المعايشة الأصيلة لواقع الشيء قادرة على تدمير هشاشة الانطباع المصنّع في مكائن الجهل إما بالبعد الجغرافي أو الفكر الثقافي .
لقد صرفت دولة قطر أكثر من 122 مليار دولار مقابل هذه المناسبة وهو مبلغ إذا قورن بما تم إنجازه مقارنة بتكلفة أي مشاريع أخرى يعتبر بالنتائج استثماراً عالي الأرباح, إذ وخلال اثني عشر عاماً فقط استطاعت الحكومة القطرية تغيير معالم قطر بشكل مذهل وبشكل ربما يخلق صدمة حقيقية تهز وتوقظ وعي الزائر لحضور كأس العالم, ذاك المحمل بانطباع خلقته وسائل الدعاية والإعلام الأجنبية بدرجة تكفي لإعادة تدوير هذا الانطباع الرديء وتصحيح المفاهيم عن الإنسان العربي والخليجي خاصة, ثم وبرغم أن الحدث عالمي إلا أن تسمية الملاعب الرياضية في ما عدا واحد فقط المسمى «لوسيل» الباقي كلها أسماء عربية تُلزم القادم بنطق اللغة العربية لتذوب في الألسن الأعجمية وتستأنس بها, ولم تكتف الجهات القطرية القائمة على هذا الحدث العالمي بذلك بل تم نشر لافتات ثقافية وفكرية تتحدث عن أخلاق الإسلام وقيمه بطريقة أنيقة ومتحضرة وكأنما تعمل عمل القص والحذف لكثير من الصور الانطباعية في العقول القادمة تلك التي صنعتها وشكلتها دعايات وإعلام كاذب, إنه عمل تاريخي غير مسبوق وقد لا أخالف الحقيقة إن قلت إنه انتصار حضاري يساوي عظمة وفخر انتصارات الحروب العسكرية.
الجمع بين عظمة الإنجاز ورقي التنظيم وسلاسته بأحدث النظم التقنية مع حماية الهوية ثقافة وعقيدة وفكراً وتحضراً يشكل بمجموعه إنجازاً عربياً وإسلامياً يبُسط على سطح الوعي العالمي بشكل يفصل ماقبله عن ما بعده, كونه عملاً متقناً لا يقدر عليه الكثيرون لحدث عالمي حضاري يقدم الوجه العربي والمسلم بصورته الحقيقية بما يقشع تلك الرتوش المزيفة المطبوعة في أذهان كثير من الناس على مستوى الأرض وخاصة أولئك المغترين برؤيتهم المشوبة بشيء من العنصرية في البلدان المتقدمة.
الملفت للانتباه أنه وخلال العشر سنوات الماضية حدثت قفزة نوعية في معظم دول الخليج العربي على مستويات وتنوعات مختلفة تشكل في مجموعها نقطة تحول فاصلة لغد عن أمس, أتحدث عن مجمل الشؤون الداخلية والخارجية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية, وبرغم من محاصرة الخليج العربي والجزيرة العربية ببلدان يوجعني أن أقول فاشلة لكنها بكل أسف تعود القهقرى للوراء بما في ذلك إيران الصاعدة في التصنيع العسكري لكن على حساب المواطن الإيراني في أساسيات حياته, الأمر قد يعود لظهور جيل الشباب في الحكم الخليجي الذي أعاد الدول إلى شبابها وحيوية حراكها الذي نقلنا فعلاً إلى حراك العالم ومساراته والتأثير فيه وحماية الحقوق السيادية في النهوض والمنافسة على القمّة, وكان للتكامل بين دول الخليج خاصة السعودية وقطر في هذا الحدث العالمي قيمة داعمة للنجاح بإذن الله كجزئية من تكامل هذا الصعود والنهوض الذي حينما نسمع ونرى ونقرأ عن بعض طموحاته التي تشابه الأحلام إن استندنا إلى ماقبل عشر سنوات وما يحدث اليوم نجدها تتخطى الصور والخيالات, لكن الواقع يجعلها مسألة وقت لا أكثر, في عمل ليس بالسهل بل ومحفوف بالمخاطر والمنزلقات, ولكن ما نشهده في قطر مع هذا الحدث ذي الزخم العالمي من نهوض وتطور ورقي في الإبداع بما يجمع تجاوز تقدمية كثير من الدول وأسبقيتها في النفاذ العصري مع التمسك بالأصالة وحماية الهوية إرثاً وفكراً بل والاستخدام الذكي لهذا الإنجاز في إعادة الأصالة العربية والإسلامية بنقائها بعيداً عن التشويه البغيض الذي مارسته ولا زالت كثير من واجهات الدعاية الصهيونية كفعل حضاري متقدم يفتخر به كل عربي ومسلم.